معاني……من البوسنة و البلقان

1٬671

لكل عاشق للتاريخ والحضارات ولكل هاو للاستكشاف والبحث في مختلف الأعراق والثقافات البشرية، أكتب هذا المقال النابع من تجربة شخصية ووعي ذاتي. أذكر في الرابعة عشر من عمري عندما كنت أشاهد برنامجا وثائقيا صحبة والداي حول بلاد البوسنة والهرسك، وما أثار انتباهي آنذاك جمال المناظر ومعمار المساجد المختلف عن بلدي. لم أكن أدري أن ذلك سيولد اهتماما ورغبة جامحة لاكتشاف ذلك البلد وخباياه.

وبعد سنوات، تحقق مرادي وانطلقت في رحلة حول دول البلقان، بدءا من كرواتيا ومرورا بالموتينيغرو وسلوفينيا وانتهاءا بالبوسنة، وبالفعل، ارتوى عطشي  من جمال تلك المناظر التي رأيتها وراء الشاشة فقط… فقد وطئت قدماي محميات طبيعية ذوات شلالات زرقاء غزيرة نابعة من جبال شاهقة تجري من تحتها  أنهار أشعرتني بالانبهار لعظمة صنع الخالق وبأحاسيس ممزوجة بالفرح والوحدة والسكينة.

تتقاسم لغات دول البلقان جذورا للغتهم الأم “السلافية” التي تشبه اللغة الروسية إلى حد ما نظرا لتاريخهما المشترك إبان الحكم اليوغوسلافي الذي شمل دول البلقان بين فترة 1941-1918.

هذا السفر كان عبارة عن جولة بين الماضي والحاضر، إذ أن البازارات القديمة والأسواق التقليدية ترجعك إلى مجد الفتح العثماني من جهة، وبعض الأزقة والشوارع تأخذك إلى حقبة حكم الإمبراطورية النمساوية الهنغارية ببناياتها الأوروبية، وللحكم اليوغوسلافي بمعماره المعاصر من جهة أخرى.

عند وصولي إلى سراييفو مساءا تجولت بين الأزقة التقليدية وأحسست بتفرد هذه المدينة عن باقي البلدان المجاورة… فهي مستوحاة من مدينة استنطبول التركية وتتميز بمقاهي الشاي الأسود، وبحلويات البقلاوة والمهلابية وكذا بنفس الأكلات الشهيرة كبوريك السبانخ وفطاير الجبن مع لبن عيران…


وأنا عائدة إلى الفندق عبر جسر سراييفو الشهير، إذ ترتفع المآذن العالية منادية لصلاة العشاء… حينذاك شعرت بالفخر وكأنني حققت حلما من أحلام الطفولة وقد وصلت إلى “قدس أوروبا” كما يطلق عليها أصحابها.

بدأت استكشافي للمدينة صباح يوم الجمعة مع مجموعة من الأجانب صحبة مرشد سياحي شرح لنا كيفية اندلاع الحرب العالمية الأولى وقوفا على جسر سراييفو الذي اغتيل فيه ولي عهد النمسا فرونسوا فرديناند وزوجته صوفيا على يد طالب صربي إبان الحكم النمساوي.

متاحف المدينة لا تكاد تنتهي ويروي كل واحد منها عن حقبة زمنية من تاريخ البوسنة، كما أن كثرة المساجد والكنائس ومعابد اليهود تحكي عن تعايش  الديانات في تسامح وانسجام شهدها البلد على مدى العصور وبالأخص خلال حكم العثمانيين.

حضرت خطبة الجمعة من ساحة المسجد الغازي خسرف باي في قلب سراييفو حيث أن تقاليدهم تحتم على النساء أن تصلي بعد إنتهاء الرجال من صلاة الجماعة. أُُُلقيت الخطبة باللغة السلافية مع ذكر بعض الآيات من القرآن الكريم ورأيت المسجد لا تكاد تجد فيه موطئ قدم من كثرة المصلين الذين غمروا باحة المسجد. في ذلك الحين تغافر السياح مندهشين لالتقاط الصور عبر نوافذ الساحة.

وككل مكتشف لا يمل من البحث وتتوق نفسه إلى اكتشاف المزيد والتغلغل في طيات السفر… انتقلت إلى مدينة “Pocitelj” التي تتميز بعدد سكانها القليل من بينهم تجار قليلون يروجون اقتصاد البلدة، وإمام المسجد الكبير إبراهيم باشا وقلة قليلة من سكان المدينة. معظم الناس رحلوا إلى العاصمة أو خارج البلد بحثا عن حياة أفضل، فجل المدن المجاورة تكاد تخلى من ساكنيها بينما أصبحت ملاذا للسياحة الداخلية ولكل من أراد الابتعاد عن ضجيج المدينة. مدينة هادئة تسمع فيها خرير المياه وزقزقة العصافير و لعل أقوى صوت هو صوت آذان العصر العالي يدعو الناس إلى الصلاة.

شبيهتها و جارتها بلدة “blagaj” المعروفة بالهدوء التام وبالطبيعة الخلابة وبمنزل الدروايش فيها وهي كناية على طلبة العلم والدين. كانت الغرف السفلية في هذا المنزل مفتوحة لأي راحل أو مسافر دخل عليه وقت الصلاة، وكانت ثلاث غرف علوية مخصصة لاستقبال المسافرين وإكرامهم بالطعام والشراب ولعلها خصلة الكرم والضيافة هذه مشتركة بين البوسنيين والأتراك والعرب والأمازيغ وكل من يوحد بينهم دين الإسلام، لما فيه من حث على كرم الضيف وحسن المعاملة. تليها الغرفة المجاورة وهي غرفة التعليم والتعلم بين الحكماء والدروايش، غرفة حفظ القرآن وترتيله وتلقين الفقه والسيرة وتحصيل باقي العلوم.

أخيرا غرفة الذكر… غرفة صغيرة لمن أراد أن يختلي بالله ويذكر الله آناء الليل وأطراف النهار… شرفة تطل على النهر الأزرق وشلاله وكأنها اختيرت عمدا للتّفكر في بديع صنع الله تعالى.

بين زياراتي وتنقلاتي عبر البوسنة والهرسك وجدت ما شاهدته في ذلك البرنامج بل وشعرت بحب البلد ولمست جماله، غير أن وراء هذا السحر والجمال حزن دفين تكاد تراه في وجوه الناس وفي البنايات المعاصرة وفي بعض الأزقة الضيقة. فالليل في سراييفو لا يشبه الليل في مدينتي وكأن المدينة  تكتسي بثوب الحزن واليأس، ليل لا تسوده السكينة بل يسوده الخوف.

هنالك أشياء لم أسمعها ولم أراها في البرنامج وكأن عقلي الطفولي لم يريد تسجيل الصراع والحرب المشينة المشهورة في التسعينات من هذا القرن.
لن يكون سفري مكتملا لو لم أقرأ عن تاريخ البلقان وما شهده البوسنيون من إبادات جماعية على حسب الدين والعرق… دخلت مكتبات في سراييفو تحتوي على أرشيفات حول حقائق صادمة لمجريات الحرب… دخلت متحفا ومعرضا للصور يروي تاريخ الإبادة ما بين سنة 1992 و1995 بما فيها الإبادة التي وقعت في المدينة الشهيرة ” srebenica” على حدود صربيا. كانت كل صورة ملتقطة بالأبيض والأسود تروي قصص حقيقية من بينها صورة لامرأة عجوز واقفة على الباب تنتظر خبرا عن زوجها وابنيها، إلى جانب صورة لدمية متسخة فوق التراب تسجد أحلام الطفولة المقموعة تحت أنقاض الحرب، تتبعها صور أخرى لخبراء التشريح وADN يبحثون عن هوية الضحايا ولا زالت الأبحاث مستمرة إلى يومنا هذا بعد مرور ما يقارب حوالي 25 سنة.

شاهدت فيديو ينقل أخبارا عن إبادة حوالي 8000 شهيد مسلم على يد القوات  الصربية وكيف حاول البوسنيون المسلمون المقاومة والدفاع عن دينهم وأرضهم دون مساندة أو دعم من هيئة الأمم المتحدة ولا من المجلس الأعلى الأوروبي.
كانت البوسنة حينئذ تسعى إلى الاستقلال عند أفول دولة يوغوسلافيا وبينما استقلت كل من كرواتيا وسلوفينيا وبعض دول البلقان بدعم خارجي، ظلت ”  بلغراد” تجري وراء نشأة صربيا الكبرى بعدم السماح للبوسنة بالاستقلال وقيام دولة مسلمة وحيدة وسط أوروبا.

غير أن النصر كان حليفا للبوسنة بوجود قائدهم علي عزت بيغوفيتش وأنصاره من المسلمين وغير المسلمين اللذين قاوموا حتى الاستقلال.
ظل الإسلام سائدا في البلد وارتفعت مآذن المساجد مرة أخرى بعد أن هُدم الكثير منها وظل كل الناس على مِلتهم مؤمنين بالسلام والتعايش والتسامح  على مبدأ الأخوة والإنسانية.

لعله وصف بخيل، فلا يمكن وصف الحرب ومجرياتها في مقال واحد، ارتأيت أن أحكي عن تجربة شخصية لهذا السفر الذي من خلاله شكلت وعيا تاريخيا وحضاريا وأدركت فيه معاني كبيرة لمستها واستشعرتها كالأمن والسلام، الإيمان والعلم، الاختلاف والتعايش.
أردت أن أسلط الضوء على بلد ومنطقة مهجورة من قبل العالم وبذلك أنقل نبذة طفيفة عن تاريخها، ماضيها وما وراءها من سنن كونية تتكرر ودروس تُتعلم. أدركت أهمية معرفة تاريخ الأمم والشعوب وأن السفر ليس فقط استراحة بل تثقيف ذاتي وإدراك لقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} سورة الروم(22).