من بلال الحبشي إلى أحمد العثماني

0 4٬158

عندما إنهزمت جيوش الإمبراطورية العثمانية في الجبهات الفارسية وجبهات امبراطورية النمسا والمجر وذلك في عهد السلطان العثماني أحمد قرر هذا الأخير بناء مسجد السلطان أطلق عليه إسمه أو ما بات يعرف في العصر الحديث بالمسجد الأزرق وذلك بهدف محو أثر الهزيمة من نفوس وقلوب رعاياه وكذلك لترك بصمة خالدة في تاريخ الإمبراطورية عن فترة حكمه تنسي الأجيال القادمة حجم خسارته. كانت حيلته جيدة جدا لدرجة أن لا أحد الآن يكترث بأمر هزيمته في الحرب، في حين أن كل الأجناس والأعراق والأديان لا يمكنها أن تخفي حبها وانبهارها بهذا المأثر الرائع الذي يشكل أجمل وأبدع ما يمكن لأي زائر أو مقيم في تركيا رؤيته أو الجلوس بين زواياه أو تأمل المصلين والسياح وهم منبهرين بروعة هذا الإبداع البشري للمعماري محمد آغا تلميذ المعلم سنان رئيس المعماريين على مر تاريخ السلطنة العثمانية.
مسجد من ست مآذن كما كان الحال في المسجد النبوي، إلى أن استدرك السلطان أحمد الأمر، وأمر بإضافة مئذنة سابعة للمسجد النبوي حتى يتميز عن غيره، والذي استوحى شكل قببه من قبة الصخرة بالقدس الشريف.
الآن وقد أصبح هذا المكان قبلة لكل متعطش للجمال والإبداع والحضارة بجمال حدائقه وأسواره وأرضياته الرخامية وصنابير المياه العذبة التي تروي الزوار والمصلين مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، وكل هذه الوجوه العربية والأوروبية والأسيوية والأمريكية التي تحملق للمصابيح المتانثرة في سماء المسجد والقبب المنقوشة والنوافذ العالية التي تمنح للضوء شرف ملامسة الجدران والآيات القرآنية وإسم الجلالة وإسم النبي وأصحابه المرسومة على حواشي الأعمدة بلون ذهبي يريح العين ويداعب الروح .. كل ذلك وأكثر في هذه البقعة الطيبة.


وعند كل آذان يرفع لكل صلاة فيه، سواء كانت صلاة من الخمس أو صلاة جمعة أو تراويح رمضان، يذكر اسم بلال الحبشي الصحابي الجليل عاليا ويتم الدعاء له والترحم عليه، داخل واحدة من أفخم البنايات التي عرفها التاريخ، عبد أسود كان يرعى الماعز جعلته لحظة صدق آمن فيها بحريته من قيود البشر وصدق بعبوديته لرب البشر، فكان هو بلال أول مؤذن يدعوا له الآلاف عند كل صلاة .. منذ ذلك الحين إلى الآن وإلى أن يشاء الله..
وأنا أكتب هذه الكلمات ممدة أرجلي داخل مسجد السلطان أحمد أراقب مختلف الأجناس، وأستمع لمختلف اللهجات في محاولة فضولية تدل على أصلي المغربي للتعرف على بلد كل شخص ممن حولي، أرى كيف كتب “حضرة بلال الحبشي” بخط عثماني مائل ومتماوج فخم على أعلى عمود في المسجد، أبتسم لدورة التاريخ التي خلدت رجلا لم يكن في عهده سوى خادم لسيد طاغية، كان صادقا في طلبه للحرية وثباته في وجه الهمجية، صمد على قلة حيلته في وجه عجلة الزمن في حين خلى أسياده ممن ملكوا الذهب والبعير والبشر .. تعلمت في هذه اللحظة درسا قويا ربما ما كنت لأشعر به بعمق سوى بتواجدي في هذا المكان، وهو أنه مهما كنت ضعيفا ومهما أحاطتك بشاعة المتسلطين وقسوة الطغاة وقلة الحيلة كبلال الحبشي أو مهما كانت هزيمتك ساحقة وفشلك مزلزل وخيبتك عظيمة كأحمد سلطان العثمانين .. احرص على ترك أثرك الطيب وحفر بصمتك والصمود في وجه التاريخ بكل ما أوتيت من صدق وقوة.