قبل ثمانية أعوام تقريباً، توجهتُ رفقة صديقتي -ذات مساءٍ من مساءات حُزيرانْ – إلى مقر جمعية للأطفال المُتخلى عنهم الذي كانت تعملُ به أختها البِكر مُربيّةً آنذاك؛ والذي كان يقع بالمستشفى المركزي للمدينة، كان المقر وقتها عبارة عن فناء يتوسطه ما يُشبه مطبخا على الطريقة الأمريكية، وعلى الجانب المقابل تلفاز وأريكة تقضي المُربيات وقتهن عليها ما أن يَفرغْنَ من إطعام الرّضّع وتغيير حفاظاتهم، وفي الجانب الآخر غرفة تضُمّ ما يُقاربُ ثلاثين سريراً.
كان أوّل من لفت انتباهي قبل دخولي إلى قاعة النزلاء، رضيع لم يكن عمره يتجاوز السّنة، آنذاك، كانَ أبيضاً، كقطرة حليب، أشقراً، كالسّنابل أوانَ الحصاد، ناعماً كبذرة الكتّان، وعينيه الواسعتين بلون بحرِ مدينة الحُسيمة لَحْظةَ الهَيجان، كانت إحدى المُربيتين تحمله لتُرضعه، طلبتُ منها أن أحمله لبرهة، كان رضيعا غضّا، نحيلا، وهادئا كليالي الصّيف الرّائقة، أخبرتني المُربية أنهم أطلقوا عليه اسم ياسين، ما زالت صُورته التي احتفظتُ بها في هاتفي لسنوات، عالقة بذاكرتي إلى اليوم. أخذته بين ذراعيّ، حضنته بكامل قواي كما تحضنُ الأّمّ مولودها ما أنْ تضعه، وكأننا كنّا نستمتع حينها معاً بلحظات أمومةٍ مَسروقةٍ من الزّمنْ، أردْنا أن نكونَ فيها بعيدينْ عن كلّ شيء.. قريبين منْ بعضنا فقطْ؛ كنّا ندركُ تمام الإدراكْ أن ذاكَ الشّعورَ الجميلْ سُرعان ما سينتهي بمُغادرتي ذاك المكان، لكننا لم نكنْ لحظتها آبيهن بشيءْ، ربّما فعلنا ذلك نكاية في هذا العالم البئيسْ، أو ربّما في هذه الحياة التي لا تَصلحُ بدون أمّ، أمْ في الأقدار التي لا نعرفُ حتّى كيف تقودنا وإلى أينْ، مالَ برأسه على صَدري وكأنما كانَ يتحسّسُ نبضَ قلبي وقلبه في استسلام مُنقطع النّظيرْ.
في غمرة فرحي، لم أنتبه إلى أنّ ياسين لم يكن طفلاً طبيعيا، رُبّما لصغر سنّي آنذاك، لمْ يسترع انتباهي كونه كان يثبت نظره إلى جهة واحدة طوال الوقتْ، استفسرتُ المربية عن الأمرْ، ولم أكُن أتوقعُ أن يَصْعقني جوابها الذي لمْ أضعه أبداً في الحُسبانْ، أخبرتني أنّ ياسين وُلدَ ضريراً، رُبّما كان ذلك السّبب وراء تخلي والديه عنه، وتركه وحيداً قبل قُرابة شهر، لم تُتمم السّيدة جُملتها حتى فقدتُ حاسة النّطق بدوري، كان كلامها كقطعة جمرٍ مُلتهبة أحرقتْ حبال صوتي وأفقدت قلبي توازنه، أوْشكت الدّموع أن تفرّ من عيناي، حاولتُ جاهدة أنْ أحايلها بابتسامة مُصطنعة وأنا أداعبُ ياسين، لكن دُون جدوى! فأقسى البُكاء كما قرأتُ لدوستويفسكي يوماً: «هُو ذاكَ الذي يقطعُ أنفاسَنا ونحنُ في منتصفِ الكلامِ، ويجبرنا على التّوقف»
كان ثَمَّة في المركز أيضا، طفلةٌ يبدو من ملامحها أنها تبلغ من العُمر العاشرة أو أكثر، كانت الأكبر سنّا بين النُّزلاء، طويلة القامة، شعثاء الشّعر، بعينين غائرتين تتلألآن في محجريهما، وسُحنة مُحمّصة، وجسد نحيل، يتخيل لك أنّ عظامه تُوشك أن تهرب منه من شدة البُروز، كانت طفلة، كثيرة الحركة وعنيدة بشكلٍ لا يُطاق، يحسبُ لكَ أنّها مُضطربة ذهنيا مع أنها ليست كذلك، أخبرتنا إحدى المُربيات أنه لا أحد ممن يقصدون الجمعية للتبني، يرغبُ في تبنّيها، لأسباب تخجلُ أفواههم من الإفصاح عنها، هكذا نحنُ البشرْ؛ مهما ادّعينا على بعضنا أنّنا أسوياء، إلا أنّه يظلّ مَنسوب يسير من العُنصرية التي تسكننا ونحاولُ جاهدين أن نخفيها، يُعري حقيقة الإنسانية التي طالما تبجّحنا بها، ويرفع عنها الحجاب في لحظة من لحظات الحياة، حتّى وإن كان الأمر يتعلقُ بعمل إحسان كما هو الحال هنا، فنجدُ أنفسنا عُراة أمام التّناقض الذي نحنُ غارقون فيه.
ما أفظعَ أن تكون مَسلوبَ الحقّ في أن يكون لك أبٌ وأمّ، وبيت يحتويك، غيرَ أنّ الأكثر فظاعة، هو أن تخوض صِراعا طويلا من أجل أنْ تتأقلم أخيراً مع واقعك وترضى بقسمتك، – ويُعزّيك في ذلك دومًا، كونُكَ لستَ الوحيدْ، وأنَّ العشرات من حولك، يتشاركون وإيّاك ذات الوضع والمَصير. ثُمّ يأتيكَ يوماً ابن آدم من حيث لا تحتسبْ، هوَ نفسه الذي أخرجك إلى هذا العالم دون أن يأخذ برأيك، ودونَ أن يعترف حتّى بإنسانيتك، ليُخبركَ أنّكَ، وبين هذه الجدران التي تقشّر لونها، وتآكل سقفها، لستَ تملكُ حقّ المُساواة مع الذين اعتقدْت أنّك تُشاركهم ذات المسكن، وتتخاطف معهم كلّ يوم على قطعة اللّحم الوحيدة في وجبة الغذاء…لأنك وببساطة لم تستجب لمعايير وضعها عالم يُفَضَلُ الجميلْ، بينما يحتقَر الدّميم، ولو كانا الاثنين إخوة من نفس الأب والأم.
قبل خمس سنوات، ضَربت لنا السّفارة الأمريكية مَوعداً في مؤسسة الدّار الكبيرة للأطفال المتخلى عنهم بمدينة القُنيطرة؛ في إطار أنشطتها التطوعية (community service) التي تقوم بها رفقة خرّيجي برامج التبادل الثقافي والتّعليمي في الولايات المتحدة الأمريكية، هناك، التقينا بمجموعة من الأطفال الذين تعدّدت أسباب تواجُدهم في مؤسسة للرّعاية الاجتماعية، لكنّ النتيجة في آخر المطاف واحدة؛ حياة بدون أسرة ولا هوية لن تُعوضها أربعة حيطان، وكفاحٌ فردي من أجلِ تحقيق الذات في حال غَرفتَ من الحظّ القليل، وتمّ تأهيلك وإدماجك في المجتمع، أو عودة إلى الشّارع بخفي حنين، ما أن تبلغ السّن القانوني بدون حِرفة ولا دبلوم، مُسلّماً نفسكَ للمجهول.
عيسى، أميمة، صلاح، وآخرون…أسماء كثيرة، وأعمار مختلفة، حدثنا مُدير الدّار عن قصص بعض النّزلاء، كما حدثنا عن ظروف التخلي التي تكون غالباً نتيجة لأبوين مجهولين، أو أمّ معلومة وأب مجهول، أو حالات يُتم، أو في حالات كثيرة أخرى بسبب إعاقة الطّفل؛ لم أستسغ كيف تصلُ الوقاحة ببعض البشر أن يتنصلّ من مسؤوليته تُجاه فلذة كبده لسبب لمْ يكن له يدٌ فيه، كيف تحكمُ على طفلٍ -لا حيلة له ولا قوة- بأن يدفع ضريبة إعاقته، وضريبة تهوّرك في أن تكون أمّا أو أبا جباناً؟! أخبرنا أيضاً عن “صلاح”، الذي كانت قصّته مُغايرةً لقصص زُملائه، فقد أخذته والدته بنفسها بعيدا عن مدينته بمئات الكلومترات، لأنها لم تستطع التكفّل بتوأم، ودّع صلاح بيتهُ في عُمرٍ مكّنهُ من تذكّر كلّ تفاصيل رحلته، كما مكّنه من أن ينسى أمّه التي زرعتْ أشواك الحقد مُبكّرا في قلبه! ناداهُ المدير، ثمّ سألهُ أمامي: من ترغبُ في رؤيته؟ أجابه دون تردّد: أخي ! سَرحْتُ في عُيون “صلاح” وجوابه، وفقدتُ خيطَ حَكايا المُدير. تساءلتُ، ماذا لو كنتُ أنا أيضاً مُتخلّى عنّي؟ ماذا لو وجدتُني قبل سنوات مَرميةً جنبَ حاوية أزبالْ، لأن أبي لم يَعترفْ بانتسابي إليه؟ ماذا لو كان قدَري أن أكبر في الشّارع؛ أفترش الأرض وألتحفُ السّماء؟ ماذا لو كنتُ ُمجردَ رقم في سجن مُغلق اسمُه الخيرية؟ ماذا لو كان علي أن أتزاحم كل يوم مع العشرات من “اللقطاء” مثلي لأفوز بكِسرة خبز أو قطعة لحم؟ ماذا كان سيكون مصيري ما أن أبلغَ السّن القانوني، ويُطلَبُ منّي أن أغادرَ مَيتما كبُرتْ عُقدي بين أسواره؟ كيف سأواجهُ هذا العالم وأنا في نظره مُجرّد لقيطة…ابنة شوارع، أوفي أحسن الأحوال.. ابنة الخيرية؟! كيف سأثبتُ نفسي في مُجتمع يعتبرني مُجرّدَ سمكة فاسدة ستُفسدُ أسماكه الطازجة التي مَنحها هويةً…بينما حرمني منها أنا؟! ماذا سأخبرُ العالم إن سألني يوماً عن نسبي؟ مَنْ أنا؟ وابنةُ من أكُون..؟
هل جربت يوما أن تضع نفسك مكاني لبرهة…وتتخيل حجم العار الذي يُثقل كاهلي كلّما فكّرتُ في الجواب؟!