أريد أن اقرأ… ولكن!

كثيرا ما سمعت مقولات تحض على القراءة وترغب فيها، من قبيل؛ “أمة اقرأ لا تقرأ”، وأنه “بالقراءة تستعيد الأمة ريادتها”، وأن “القراءة واجب وطني وديني؛ وليست مجرد هواية”، وغيرها من المقولات التي تصور -لمن لا يعرف- عالم القراءة والكتب جنة! لكن هذه الجنة سرعان ما تتحول إلى جحيم ومعاناة، من أجل لقمة المعرفة، بعد أن يشمر الواحد عن ساعد الجد ليبدأ الرحلة.

لعل أول عائق قد يصطدم به القارئ المبتدئ هو التوجيه، وتلك مشكلة عويصة؛ خصوصا إذا بدأ المرء متأخرا، حيث لا يعرف من أي الكتب يبدأ، وفي أي مجالات العلم والفكر يغوص، ويترتب عن هذا العائق أمورا قد تكون سلبية، أو إيجابية، بحسب تعاطي القارئ معها، فمن المحتمل أن تقوده قراءته إلى منزلقات خطيرة؛ كتبني أفكار شاذة ومتطرفة، فقط لأنها تزين الباطل وتزخرفه بعدد من المغالطات التي تساق في صورة أدلة قطعية. نفس الأمر إذا استعمله القارئ النهم الباحث عن الحقيقة والمتبع الدليل إلى حيث قاده، فقد يتعرف على مجموعة من الأفكار والمذاهب الفكرية، مما يكون في صالح صاحبه؛ بحيث يثري مخزونه الثقافي عن الأديان، والمذاهب الفكرية. فقط ينبغي أن يكون المرء متسلحا بالقاعدة الرئيسة وهي “استدل قبل أن تعتقد”.

وأما العائق الثاني: فهو ندرة الكتب؛ خصوصا في العالم العربي، وخصوصا الكتب الفكرية المهمة، فقد يمضي الإنسان عدة سنوات، في البحث عن طبعة رديئة لكتاب ربما تكون هي الوحيدة الموجودة، وهنا مفارقة مهمة؛ رصدتها في غير ما مرة، وهي أن تجد الكتب ملقاة في الطرقات لا تجد من يشتريها، ويشتكي الباعة من قلة القراء، وفي المقابل يشتكي القراء من قلة الكتب، وهي مفارقة يمكن حلها باعتبار أن الأول وهو البائع؛ يركز على الكم! والثاني يركز على النوع! ومن هنا لا يتم الاتفاق بين كلٍّ من بائع الكتب، والقارئ النهم الباحث.

وأما العائق الثالث: وهو فيما يتعلق بالمكتبات العامة في العالم العربي، بحسب تجربتي الشخصية -لكي لا أعمم- فإن أغلب المكتبات العامة؛ يوظف فيها موظفون لا علاقة لهم بالقراءة ولا بالكتب، فقط إنسان يبحث عن وظيفة وظف بطريقة ما، والأصل في العلاقة مع الكتب أن تكون علاقة حب ومودة واحترام، وهذا الخطأ الذي يسقط فيه المسؤولون وهو توظيف الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب؛ يؤدي إلى عدم تقدير رغبة القارئ في الحصول على الكتاب؛ بحيث غالبا ما يُواجِه الموظفُ حرصَ القارئِ والباحثِ باللامبالاة، وهو ما يشكل صدمة لهذا الباحث والقارئ ويزيده نفورا وإدبارا.

أما العائق الآخر: وهو أشد العوائق تأثيرا وعمقا في نفسية الباحث القارئ، وهو العائق المادي، بحيث كما يقولون: “العين بصيرة واليد قصيرة”! وبالنسبة لطالب فقير؛ فإن قراءة كتابين ورقيين في طبعة جيدة خلال كل أسبوع؛ يعد أمرا مكلفا، بل إن تكوين مكتبة شخصية من 500 كتاب فقط! في الوطن العربي مكلف جدا، بالنسبة للطبقة الفقيرة.

كل هذه العوائق تهون! ويمكن أن يتخطاها المرء مع الزمن، إلا أن أشد العوائق ألما في النفس، هو عائق العذاب المصاحب للمعرفة! فبمجرد أن يبدأ الإنسان بخوض غمار البحث عن الحقيقة؛ حتى تلفظه نارها، وتتحول إلى جحيم لا يطاق، فالجهل نعمة لا يدركها إلا من عرف! ذلك أن معرفة حقائق الأمور تجعل المرء يحس بكم الفساد، والتحريف، والزيف، الذي طال الحقيقة، تجعل المرء ينحدر من عالمِ القراءةِ، والكتابِ، والأدبِ، والأفكار النيرة، إلى الواقع الذي يصطدم فيه بصخرة قاسية تتحطم عليها كل الأحلام الوردية، والبنفسجية!

عذاب مُرٌّ لن يحس به إلا من تجرعَ الحقيقةَ، وذرف الدموع شلالات على عدد الضحايا الأبرياء؛ كما فعل الباحث “منير العكش”؛ عند بحثه في التاريخ الأمريكي، وعند قراءته لتلك المآسي التي يعجز اللسان، والقلم معه أن يصفها، نفس الحقيقة التي جعلت من “روجيه جارودي” طريدا وهو المرفوع في قومه، لا بل جعلت من جثته؛ جثة لا تستحق إلا الحرق.. وهي نفس الحقيقة أيضا التي جعلت من “المهدي المنجرة” شيخا يتحدث فترتعد كل أطرافه.. وهي نفس الحقيقة التي.. اسأل عن “سيد قطب” و”المسيري” وعن “مصطفى محمود” وعن غيرهم.. ألم تكن القراءة سبب عذابهم؟

يخطئ من يظن أن عالم القراءة بتلك الوردية التي يصورها البعض؛ قراءة لا تتخطى بعض الروايات، والأشعار المدغدغة للمشاعر المرهفة.. لا! ليس الأمر كذلك؛ ولا ينبغي له أن يكون كذلك. إن عالم القراءة عالم مر بمرارة الحقيقة التي يخبئها، مر بعدد المآسي التي يحتضنها، شاق بكم المسؤوليات التي يلقيها على عاتق كل من ولجه؛ مسؤولية التغيير؛ أو على الأقل مسؤولية حمل مشعل الحقيقة للأجيال، لكي تحاكم كل ظالم، وتنتصر لكل مظلوم، إن لم نكن نحن على قدر المسؤولية.

لكل هذه الأسباب أريد أن أقرأ.. ولكن

1xbet casino siteleri bahis siteleri