إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ…

يتراءى لنا الموت بعيدا جدا، بعد ذلك الأفق الذي نشاهده عندما نكون جالسين على شط البحر، نستمع لتلك الموسيقى الخالدة التي تؤلفها أمواجه، فنعتقد كلما سمعنا بوفاة أحدهم أن ذلك الأفق لا يزال بعيدا، أبعد مما نتصور، أبعد من أحلامنا التي رسمناها وتخيل لنا أن الموت سيدق بابنا بلطف عندما ننتهي من عيش الحياة كما يحلو لنا، عندما نشيب وتتعب العضلات والعظام ويأتي الموت ليخطف الروح بلطف كممرض ينزع المصل من يد مريض.
لطالما شاهدنا الموت على شاشات التلفاز يحصد أرواح الشهداء، في غزة رأينا أجساد إخوة ملأها الرصاص وفِي العراق رأينا أشلاء على بوابات الأسواق وعلى الطرقات. واليوم شاهدنا الجوع صار وحشا يفتك بجسد الكبار والصغار على حد سواء لكنه في الحقيقة أقرب إلينا مما نتصور؛ لأنه كتب علينا يوم كتبت علينا الحياة، كأنه شرط وحيد لها. اعتقدنا أن الموت لا يطرق إلا أبوابهم ولا يحصد إلا أرواحهم لأنه كتب عليهم بينما كتبت لنا الحياة.
لكننا مع توالي الإغراءات واللذات ننسى ونتناسى أن كل يوم يمر يقربنا منه أكثر، وأن كل دقيقة ذهبت لن تعود أبدا ماعدا تلك اللحظات التي نقضيها من أجل نشر الخير والعمل الصالح ونثر الجمال في عالم كثرت فيه البشاعة، تلك اللحظات وحدها ما يبقى ليذكر العالم بنا يوم يكتب لنا الرحيل إلى دار البقاء. تجتمع كأنها قطرات ندى تشكل غيمة تظلنا في يوم لا فيء فيه.
سئل أحدهم على فراش الموت، لو عادت إليه سنوات أخرى ماذا كان سيفعل بها ليؤكد أنه سيقضيها في فعل الخير ومساعدة الناس ولأن ذلك هو ما يجعل لحياتنا وهي على حافتها معنى: نفعنا للناس ولأنفسنا، قد أفلح من زگاها وخاب من دَسَّاهَا. صعب جدا أن تعلم بوفاة شخص لا تفصل بين ولادتكما إلا أيام قليلة. كتبت لنا الحياة في نفس الشهر، لتغادر هي إلى دار البقاء وأبقى أنا لا علم لي بتاريخ وفاتي ولا بأي أرض أموت. كل ما أعرفه أن العمر يمضي والأيام تجري كما نتسابق نحن كل يوم من أجل أشياء واهية.
رحلت الأم المحاربة التي كبرت يتيمة الأب، لتترك طفلة وطفلا لم يتجاوز عمره خمسة أشهر. هي كذلك ككل الذين ماتوا قبلها لم يكونوا يعلمون أنهم سيموتون في اليوم الموالي. دهستها سيارة مسرعة ظن صاحبها أن قضاء أغراضه بسرعة أهم من حياة الناس. كبرت يتيمة لأن سيارة مسرعة دهست أباها منذ ستة وعشرين سنة واليوم كُتب اليتم على أبنائها لنفس السبب.
تتعدد الأسباب والموت واحد. موت يذكرنا أنه مهما بلغنا في هذه الحياة، مهما تكبرنا وتعجرفنا وأسأنا المعاملة أو أحسناها فسيأتي يوم لنتذوق فيه نفس النهاية سواء كنا ملوكا أو اشخاصا مغمورين. سأل زوجها الفراغ باكيا لمن تركتِ أبناءك يا عزيزتي، فأنا كنت أعتبر نفسي طفلا لك كذلك؟ أجابته عجوز خطت الحكمة على وجهها تجاعيدا “تركتكم للذي خلقها وخلقنا جميعا يا ولدي، هو القادر على جبر الخواطر وترميم الكسور”.
لم تكن تدري أنها بعد شهور فقط من وضعها لطفلها ستتركه قبل أن يتم فطامه، لم تكن تدري أنها ستغادر قبل أن ترى نتائج ابنتها في سنتها الأولى في المدرسة. سيسألان عنها عندما يكبران وسينظران إلى صورها مرارا، سيدعوان لها ويفخران بها لكنهما لن يجدا أبدا حضنا لا يغير دفئه زمهرير الزمان. أرحام تدفع وقبور تبلع وكر وفر ينسينا أن أوفرنا حظا ليس من امتلك كل شيء في الدنيا، بل من أتى الله بقلب سليم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri