الماورائيات

إن كل إنسان أراد أن يعيش حياة سعيدة هنيئة مطمئنة عليه أن يرتفع بنفسه من عالم الحقيقة المقيّدة إلى عالم الحقيقة المطلقة، ويسافر بنفسه السامية من عالم المادة المتناهية إلى عالم المادة اللامتناهية واللامحدودة، فعالم المثل هو عالم التمام والكمال والحقيقة المطلقة، وهو العالم الذي يأخذ فيه من يستحق ما يستحق ويكون التمييز فيه بالعقل والأخلاق والسمو، وليس بالغنى والفقر.

أما عالم الحس فهو عالم اﻵراء والظلال وأشباه الحقائق، وبِرفع الإنسان نفسَه يحس أنه يعيش في عالم غير العالم الذي يعيش فيه بقية الناس، ويشعر أنه في مكان تتسع له نفسه العالية، وحينها سيرى أشياء لا يراها بقية الناس، ويتحدث بأشياء ينكرها عليه الناس، وما ذاك إلا بسبب الفرق الذي بين عالمه وعالمهم، فجسمه هنا في التراب، وروحه هناك فوق أديم السماء، وما يراه الناس من أعسر المعاسر، سيراه هو من أيسر المياسر، ويهون عليه ما يُثقِل رقاب الناس، لذلك، نجد الأنبياء والحكماء والمتصوفة يعيشون في عالم أشبه بالخيال، وخاصة الأنبياء، فتجدهم بين أظهر قومهم قد أُوذوا أشد الإيذاء، وما يحرك ذاك في مُهَجهم شيئًا، إنهم أدركوا حقيقة هذا الأمر، أدركوا أن الجسد مكانه التراب، والنفس مكانها السماء، فتركوا الترابي في الترابي، وصعدوا بالسماوي إلى السماء، وهذا يتضح جليا في قول النبي ﷺ حينما خوفوه بالقتل والايذاء فقال: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر -حتى يظهره الله أو أهلَك فيه- ما تركته» هذه كلماتُ نفس قد ارتفعت إلى أسمى مكان في الارتفاع، كلمات ما زال صداها تردده السماء بمَسمَع من الأرض، كلمات… كل كلمة بمنزلة قوة نفسية تستطيع تدمير العالم بأسره، كلمات تزعزع كيان المسلم المؤمن بَلْهَ الكافر والمشرك، كلمات قتلت قريشا نفسيا قبل أن يموتوا جسديا ويكفيها فخرا أنها كلمات من أيقن بالله حق اليقين.

لا يمكن للإنسان أيا كان، خاصة المؤمن المتقي أن يقول: إن هذا مستحيل لا يمكن الوصول إليه! بلى، تستطيع الوصول إليه بنفسك السامية إذ هي فطرة فُطِرَتْ عليها الإنسانية جمعاء من آدم أبي البشرية إلى قيام الساعة، فكل إنسان حين يولد لا يولد وحده، بل يولد معه طفل آخر لا يُرى في عالم المادة، وهو طفل يتشابه مع أطفال التراب في أشياء ويتخالف معهم في أشياء، ومما يخالفه فيهم أنه لا يكبر ولا يشيخ، بل يلزم طفولته كأطفال الجنة، ويستمد كل طاقاته من وراء المادة، فإذا وصفناه بالطفل لا يعني أنه طفل العقل! لا وألف لا، بل عقله عقل ملائكي أسمى من عقل الحيوان الترابي، فهو الذي يرشدك في جميع شؤونك، ولا يرشدك إلا إلى الأشياء السامية.

ما من إنسان يتواجد داخل هذا الكوكب الترابي إلا وهو متركب من إنسانين: إنسان سماوي وإنسان ترابي، وهذا الإنسان أو الطفل -سَمِّه كيف شئت لا مشاحة في الألفاظ- هو كائن داخلك؛ فإما أن تحاول إظهاره في كيانك الترابي أولا، فتجد بعض الناس بَادٍ على صفاتهم الخَلْقية والخُلُقِية أثر هذا الطفل، فتجدهم بلغوا الغاية في الفضائل، وتجد البعض اﻵخر بلغوا الغاية في الرذائل، والفرق بينهم أن أولئك جعلوا سماويهم حيا مستيقظا منتبها عند كل نائبة تضر مُضِيفه، فتراه دائما يحارب النفس اﻷمارة حتى تؤول نفسا مطمئنة، وهؤلاء قتلوه قتلا ذريعا بالمعاصي والرذائل، حتى إنه لم يعد يستطيع أن يحمل سيف الحق ليحارب به سيف الباطل، ولا يَضِيرُهم ذلك فتراهم يجهرون ويفتخرون أمام الملإ بذلك غير مستحيين من ذنوبهم اللامحدودة وزيادة الجهر بها.

مقالات مرتبطة

وما صورة الإنسان الترابي الخارجية إلا مرآة لذلك الإنسان السماوي الداخلي، إن صالحا فصالح، وإن طالحا فطالح، وما سر العبادات التي أُمِرنا بها سواء يوميا أو أسبوعيا أو شهريا أو سنويا أو عمريا إلا غذاؤه الوقتي ليبقى مستيقظا صحيحا نشيطا وأن لا يضعف، فكما تكون الوجبات الخمسة اليومية المادية غذاء للجسم الحيواني، فكذلك الصلوات الخمس تكون غذاء للشبح الملائكي يتقوى به، فكلما خطر للحيوان الغريزي أن يهم باقتراف فاحشة أو ذنب، إلا ويجده في سبيله متوشحا سيف غضب الله، فتدور حرب هنالك حامية في الطريق الرابط بين الفكرة وتطبيق الفكرة، فإن قَوَّيْتَه بعبادتك وإيمانك فلا شك أنه الغالب والمنتصر في هذه الحرب، والعكس بالعكس، وطفل اﻷنبياء ليس كطفل باقي الناس، فطفلهم صُقِل وأُدِّب من لدن العليم الخبير، لذلك لا تجدهم يفكرون -مجرد التفكير- في اقتراف الفاحشة، وناهيك عن فعلها، وما سر شق صدر المصطفى واستخراج منه خبث الشيطان إلا صَقل لذلك الإنسان، ليبقى دائما متوقدا أشد الاتقاد، لا ينتقم ولا يغضب إلا عندما تستباح حرمات الله، أما لنفسه فاﻷمر عنده سواء ولله در البوصيري إذ يقول في همزيته:

وإذا كان القطع والوصل لله *** تساوى التّقريب والإقصاء
وســواء عــلــيــه فــيــمــا أتــاه *** من سواه المـلام والإطراء
ولـو أن انتقتامه لهوى النف *** س لدامـت قطيعـة وجفاء

وما مغزى قول بعض الصالحين: “خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقول، وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشهوة، فمن غلب عقله شهوته التحق بالملائكة، ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائم.” إلا هذا، فلينظر كل إنسان ﻷيِّ فئة ينتمي، فكل إنسان فقيه نفسه، فأنت محصور بين شيئين، فاختر بحواسك الخمس واحدا منهما لا تختر بِفِيكَ فقط، فالعبرة بالأفعال لا بالاقوال، إما أن تكون ترابي الجسد، وسماوي الروح، أو ترابي الجسد والروح معا كما وقع لكثير من الناس، فباءوا بالخسران، وذلك هو الخسران المبين.

خلاصة القول: كل واحد منا حاملٌ معه الجنةَ والنارَ -وإن كان لا يراهما – ﻷن هذا عالم اللامرئيات واللاحقائق، وأنت مختار؛ أن تختار أحدهما لا كليهما كالنقيضين، فاختر أنفعَهما في الآخرة لا أمتعَهما في الدنيا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri