دون كيخوته: أسطورة التاريخ الخالد ج1

1٬081

إن العلوم المعرفية قبل القرن 19، كانت تنظر باستخفاف إلى عالم الأساطير، فهو في نظر الناس عالم بني على الخوارق والشطحات، عالم يعكس لونا من التفكير البدائي الذي يؤمن بهذه الخوارق؛ إذ الأحداث فيه لا تسير وفق المنطق ومقاييس العقل، وإنما تسير وفق ما يُعتبر في نطاق العبثية واللامعقول، فالأسطورة بمعنى آخر هي فوق الواقع.

وبالرجوع إلى أمهات المصادر نجد أن أول كتاب أعاد الاعتبار للأسطورة هو كتاب “الغصن الذهبي” لفريزر عام 1828، وهو أول من قال إن الأسطورة تنمو في الدين والفن والأدب، بعد أن تموت الطقوس التي كانت علة، وبذلك فإنه كان يسعى إلى الوصول إلى وحدة العقل الإنساني، فقسم الفكر الإنساني إلى مراحل: مرحلة السحر، ومرحلة الدين ومرحلة العلم، غير أن صعوبة المدرسة التطورية التي واجهته أن الفكر البشري يلجأ إلى القوة الغيبية في كل عصر حين يعجز العلم عن حل مشاكل، ولأجل ملء هذه الثغرة ظهرت المدرسة الوظيفية التي أسسها العالم السوفياتي مالينوفسكي (1884-1932)، التي أكدت للأسطورة وظيفتها الحضارية إلى جانب العلم، فالإنسان بواسطة العلم والمنطق عاجز عن إخضاع الكون، ومن تم، اعتمد على الأسطورة والمعجزة، وهكذا جعل الأسطورة تتعايش مع الناس وجعل لها وظيفتها الحضارية، أما ليفي ستراوس فاقتصر على العلاقات بين العناصر التي تتألف منها الأسطورة، معتمدا على الدراسات المقارنة، وقد لاحظ  أن”كل أسطورة هي بطبيعتها إما أسطورة منقولة وإما أسطورة مقتبسة نجدها في أسطورة أخرى، مصدرها شعب مجاور […] كما أننا قد نجد جذور الأسطورة في أسطورة سابقة من أساطير الشعب الذي يتمثل بها الذات، وكذلك يمكن أن تكون أسطورة معاصرة”، ويقول ليفي ستراوس أيضا: “إذا نظرنا نظرة واقعية إلى الأسطورة لوجدناها في آن واحد بدائية بالنسبة إلى ذاتها كأسطورة، ومشقة بالنسبة إلى من سواها من الأساطير، وأن ما يحدد الأسطورة ليس موقعها في لغة أو في ثقافة فرعية، وإنما تتحدد من حيث ترابط هذه اللغة وهذه الثقافة مع لغات وثقافات أخرى، ومن هنا يستنتج أن الأسطورة ليست وليدة لغتها، بل هي أفق منفتح على لغة أخرى.”

في الحقل الفلسفي، نجد الكثير من الفلاسفة أعطوا أهمية كبرى للأسطورة في حياة الإنسان؛ إذ يعتبرونها نتاج الطاقة البشرية التي يملكها الإنسان ويمتاز بها عن الحيوان، فالإنسان حيوان رامز ومن تم فإن اللغة والأسطورة والفن تجليات رمزية للحضارة الإنسانية، وهي جوهر إنسانية الإنسان، أما علماء النفس فقد أولوا الأسطورة بالغ الأهمية، إذ جعلوها نموذجا عاليا أصيلا، وهي بذلك تمثل قيمة نفيسة حية في لاوعي الإنسان الجماعي المقابل للاوعي الفردي، والذي نستمده من الموروث الإنساني العام؛ حيث يحقق ذاته الصغرى في الذات الكلية حين يموت الفرد من أجل أن تحيا الجماعة، ولا يتحقق إلا باعتبارها تجربة أصيلة، أما النقاد فقد كانوا ينظرون إلى الأسطورة من جانبها التوظيفي في مجال الشعر والأدب، فبعضهم كان يهتم بالكشف عن الروابط التي تجمع بين القصائد المختلفة في التراث الشفوي والأدبي وعما هو مكرر فيه، أو النماذج الأصلية التي تبدو كحقائق نفسية مطلقة في اللاوعي الجماعي، والسميائيون منهم رولان بارث صاحب كتاب “علم الأساطير”، فنظر إلى الأسطورة على أنها كلام ونظام للتواصل أو رسالة وليس موضوعا أو فكرة، إنها علامة والعلامة هي الرابط بين الدال والمدلول، مثال: كيف نجعل من الوردة تعبيرا عن الاحترام والحب؟ فالوردة دال والمدلول حسب التقدير هو الحب، فهي إذن أداة من أدوات التعبير.

أما ميشال فوكو فيرى أن الأسطورة نوع من اللغة الشعرية، تهدف رموزها إلى الالتحام بالعالم الخارجي، من خلال العجز عن إدراكه ومن ثمة فالاستعمال اللغوي يبدأ انطلاقا من الرموز ليتطور فيما بعد إلى الأساطير. فالناقد هو التحام الذات بالعالم الخارجي، وهو شبيه بذوبان الصوفي في ذاته، فالعجز المطلق عن إدراك العالم إدراكا موضوعيا، يجعل التعبير ينحرف إلى التعبير الرمزي أو الأسطوري، وهو بذلك مقام من مقامات الكلام البشري، يكشف عن أقصى ما يمكن أن يصل إليه الانفعال الإنساني بالأشياء والموجودات، ويكشف عن الإدراك العميق لحقيقة الإنسان والحياة الكونية.

أما العالم النفسي إيريك فروم فيرى أن الأساطير شبيهة من حيث الشكل والمضمون بالأحلام، مغايرة للواقع حبلى بالعديد من الأحداث المأساوية صعبة التحقيق في حياتنا، أما بول ريكور فقد جمع بين مضمون الحكاية وزمانها، لكونها حكاية تقليدية تتعلق بأحداث وقعت في الزمن الأول، فهو زمن البدايات الخارق، ومخصصة لتأسيس الفعل الشعائري، كما تعكس التجربة في الماضي وتعمل على تمديدها في المستقبل الذي ليس به خيال.
فإذا كانت الأسطورة متعددة المفاهيم فما علاقتها بالرواية؟

ترتبط الأسطورة ارتباطا كبيرا بالأدب لأنها تشتغل مثله على اللغة والخيال، وبذلك تقدم إبداعا فكريا غنيا ومتجددا موضوعه، عواطف الإنسان وهواجسه التي تتجلى فيها بوادر التعبير الأدبي، حيث تتقاطع مع القص والحكي في الرواية والمسرح، وقد اتخذ الأدب من رموزها الأسطورية مادة خصبة، من أجل ضمان سيرورتها واستمرارها في عالمنا المعاصر، باعتبارها صيغة دلالية وبعدها الرمزي، وهكذا انفتحت عليها الرواية والقصة والحكاية، ونهلت من مخزونها الذي
لا ينضب، وخاصة في مجال المسرح، فمنذ اليونان والمبدعون المسرحيون يغرفون من بحرها، وكمثال على ذلك نذكر: سوفوكلس وجوتاب، وكراسين   وموليير وغيرهم، ومن العرب شوقي وتوفيق الحكيم.

مقالات مرتبطة

ولا نبالغ إن قلنا بأن رواية دون كيخوته، دشنت لمرحلة جديدة في الآداب العالمية، بتصويرها لشخصية من صميم المتخيل قريبة من إحباطات النفوس المعذبة، وهكذا، فالحاجة إلى دون كيخوته، هي نفسها إلى ثربانتس لاستمداد الاحتمالات الغائبة، وإعادة قراءة التراث الإنساني والعربي، وفتح محاضرة جديدة لأسئلة مغايرة وعقد مقارنات جديدة بالانتباه بين دون كيخوته وغيرها من القصص الخيالية.

كتب ثربانتس رواية انطلاقا من نسق ثقافي مزدوج ثابت وآخر متحول، شكَّل سمادا ثقافيا حقيقيا للمرحلة المقبلة من الإرث الملحمي، إلى جانب التقاليد الثقافية والمكونات الأدبية الحكائية الموازية، التي تبحث لنفسها عن خانة وموقع، هناك عناصر قوية تبدت في الرواية باعتبارها مرجعيات ومحركات دينامية للمتخيل الروائي، حيث تساهم في تحقيق الوعي بتشكل نص جديد مارس خرقا، فخبرات ثربانتس وتجاربه الشخصية عبر ترحالاته المتعددة والحروب التي اطلع عليها وساهم فيها بشكل من الأشكال، بحثا عن المجد والمال وعن ذاته في لحظة انتقالية مفارقة في تاريخ اسبانيا، مع توسع الإمبراطوية وتوسع الفوارق الطبقية وانتشار الشعور الديني، ونضجه وخبراته بالحياة وتقلباتها، ساهما في إدراكه لعمق اللعب والسخرية، كل هذا ساهم في تشكيل رؤيتة لكتابة متصلة بالتمرد على بعض القواعد والثوابت، وعلى الانحراف الذي سببته روايات الفروسية. والرواية في حد ذاتها غير مفصولة عن مقولة الأدب الذي كان سائدا في تلك الفترة، لذلك فهو يفهم الرواية باعتبارها جزءا من التاريخ الذي يروي الحقائق عن المحن والصدامات الاجتماعية، فهي حيلة إبهامية يرسم عبرها مسارا من السخرية في كل مفاصل الرواية بجزئياتها.

إن كل عمل سردي يحكي قصة محكمة البناء، ويرتكز على وظيفة مركزية مهمتها تنظيم مختلف مكونات النص السردي، وتجديد مختلف مستويات بنائه، وتتحكم في توجيه النص نحو نهايته مع تشابك الأحداث وتعدد الوظائف الفرعية، وهذه الوظيفة المركزية بمثابة بؤرة العمل الحكائي، فهي التي تحدد معماريته واستراتجيته، وقد ترد هذه الوظيفة المركزية في مطلع الحكي فتحدد خطية الأعمال السردية كما هو الشأن في النصوص السردية التقليدية، أو أن تنتصف العمل السردي، أو كما في العديد من النصوص الروائية، التي تخطَّب فيها القصة بطريقة لا خطية فتكون في النهاية.
ورواية دون كيخوته، يمكن تصنيفها ضمن النمط الأول من حيث وظيفته المركزية؛ إذ نجدها تتحقق في مطلع الحكي، يؤكد هذا العنصر كونها ما تزال مشدودة في بنائها إلى نمط الحكي التقليدي الذي يرتبط بالحكي الشفوي بصلات وطيدة، وبالأخص روايات الفروسية الغربية والسيرة الشعبية العربية، وهي كذلك بمثابة دعوى النص التي على أساسها يقوم العمل السردي بكامله، وبصفتها بؤرة الحكي.
وباعتبار هذه الدعوى، نجد أنفسنا أمام احتمالين: التحقق أو عدم التحقق.
فما هي الوظيفة المركزية لدعوى النص في رواية دون كيخوته؟ وكيف تتحدد هذه الدعوى؟ وما علاقتها بالأسطورة الشخصية؟
ميز سعيد يقطين، بين نمطين من الأسطورة في اتصالها بالدعوى النصية، حيث سمى النمط الأول الأسطورة المتعالية والنمط الثاني الأسطورة الشخصية.

كثيرا ما ترتبط بعض النصوص السردية القديمة في دعواها بالعناية الإلهية المتعالية على البطل الذي يقوم بتنفيذها، فتأتي كنبوءة، أو ادعاء، أو حقيقة أزلية مثبتة في كتب مقدسة أو حلم، فالأسطورة المتعالية موجودة حتى قبل وجود البطل الذي يملى عليه تنفيذها قسرا ودون إرادته، وكمثال على ذلك أسطورة أوديب الذي حكمت عليه الآلهة بأن يقتل أباه ويتزوج أمه.

لقد كرس جيرار جنيت كتابا بأكمله للبحث عن المتعاليات النصية، ورصد من خلاله مختلف أوجه التفاعل النصي وأنماطه، وجعل همه الأساس يتركز على ما يسمى بـ(التعلق النصي)، أما المتعاليات النصية فيحدد أنماطها في خمسة أنواع وهي:
معمارية النص – التناص – الميتناص – المناصة – والتعلق النصي، وكلها أنواع تتداخل فيما بينها وتتحدد العلاقات التي تجمعها؛ إذ تتشكل دائما عن طريق المحاكاة، ويتجسد من خلال الميتناص أو التناص، إلا أن التمييز بين الأنماط الخمسة، مَكَّن جنيت من تطوير نظرية التناص وتوسيع أنماطها، ودفعه إلى استعمال مفهوم أوسع وأشمل من التناص، وهو المتعاليات النصية، ويخلص إلى أن “الترابط بين مختلف هذه الأنماط تجسيد لمظاهر “نصية” النص باعتبارها تمثل طبقات متشابكة ومتداخلة في النص، وينحي معمارية النص من هذه الخطية مؤكدا أنها ليست طبقة نصية، مادامت ترتبط بجنس النص وتتداخل مع مختلف الطبقات الأخرى لتجعلنا أمام ظاهرة أن النص كيفما كان جنسه يتعلق بغيره من النصوص بشكل ضمني أو صريح…”

وهنا لا يمكننا الحديث عن الأسطورة المتعالية في رواية دون كيخوته، لأن البطل قرر منذ البداية مسار لشخصيتة، وقرر أن يتحمل مسؤوليته في تقرير مصيره، بناء على قناعاته الخاصة وقراءاته ومواقفه من العالم الفاسد في اعتقاده، وبذلك يمكننا الحديث عن أسطورة شخصية خاصة بـدون كيخوته، يعلق عليها البطل حياته، ويحاول أن يذلل الصعاب والعوائق التي تعترض سبيله في تحقيقها.

وهكذا تأسس النص على دعوى أسطورة شخصية البطل المركزي، فهل حقق دون كيخوته أسطورته الشخصية؟ وما علاقتها ببناء الرواية؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri