رجوع إلى الله

أزقّة تَغْمُرُكَ بضوضائها، وشوارع أتعبها تضارب وتدافع أمواج من الناس على دروبها، جلبتهم تلف شاطئ سكونها، بكل وقعة قدم…، بكل نداء وصرخة، وبكل حديث مطول خلف ستار الأسرار، فيظل السكون متخفيا خلف حيطان الأزقة، ينتظر الليل ليطل من وكره المتغلغل بين تلال السماء، شامخا له هيبة ووقار جليلين، تلمحه الشمس فتنحني له انحناء مطولا وهي تتراجع أمامه جهة المغيب، حتى لا تعود تلمح لها شعاعا واحدا، فيغفو النور خلف الدُّجَى، ويخرج السكون من مخبئه ليسري بين أطراف المكان. لكن الإنسان العنيد يأبى إلا أن يغالب الليل وهيبته، فتراه يقظاً بقلب غافل عن الحي الذي لا ينام، انشغل بذاته عنه وابتعد…، يسهر الليال الطوال سامراً، يلهيه الأمل والعمل لدنيا لا تنجلي سماء أعباءها، وإن ما انتهى الحال بجسده الملفوف على روح مترهلة؛ بالعياء، تراه وقد سمح له بأن يلمس السرير لسويعات من الليل وساعات مديدة من النهار…وحين يصحو يظل قلبه راقدا محفوفا بغفلة عميقة…اختلال في نظام الكون عنده، جعله يختل هو أيضا.

قلوب البشر آثرت الحياة و علقت بها رغما عنها، تهلكهم إن ما أمِنوا مكرها، أو تنحني لهم إجلالا إن ما هم واجهوها بمعرفتهم لها.

وفي خضمها، ينشغلون بإشباع جوعهم المادي، ويظل الجوع إلى الله يشعل في قلوبهم جمرا خانقا، تضيق صدورهم، وتتعكر صفوة حياتهم، لا يلتفتون إلى من بيده أن يزيح الهم وهو أقرب إليهم من حبل الوريد.

يخافون دائما من أن تزل أقدامهم طريق الربح فتراهم وقد انغمسوا في وحل المعاناة، فتتكبل أجسادهم بأحبال الوقت الذي يسحبهم معه، يساقون كالعبيد وراءه وهم يتعثرون ويتأوهون، وفي مرورهم، ينسون أنفسهم وذواتهم ويهملون أرواحهم ولا يلتفتون إلى الكون بأسره، فلا هم للتأمل والتفكر صاروا طائعين ولا لفهم الكون يوما توقفوا…

وفي خضم هذا المسير المهيب كنت واحدا منهم، أنساق مع الوقت أجاريه، لكنني مللت وتعبت روحي وتاقت سكناتي إلى أن تتنفس الصعداء، تأملت عبورهم لوهلة ثم تساءلت بحسرة: هل منظري مزْرٍ ومخيف إلى هذه الدرجة، وأنا أسابق الزمن مع هؤلاء، توقفت وخارت قواي، أزلت كل حبال الوقت التي كانت تلفني، ثم سقطت على ركبتاي وأنا أدفن رأسي بين ذراعيّ مرتجفا مذعورا مما كنت أفعله، ثم بعد برهة رفعت رأسي بحذر وكأنني مقبل على رؤية شيء مخيف، وإذ بكل أولئك البشريين يتوقفون عن المسير، استداروا ناحيتي وهم يحدقون فيّ بنظرات رهيبة، يتخللها حقد ظلامي، حملقت فيهم بعيون ساهمة، فأردف أحدهم قائلا: لم توقفت يا هذا؟ كيف تتجرأ و تخالفنا؟ كانت كلماته كفيلة بأن تجعل الجموع الغفيرة تطلق صياحها وتنتفظ كلها ضدي، علمت حينها أن ساعتي قد حانت…راحوا كلهم يتجهون صوبي، تمنيت في كل دقيقة تمر علي وهم يقتربون لو كنت سرابا، أو ترابا أو طائرا بجناحين يحلق بعيدا في سماء شاهقة. تمنيت أن أعود إلى البداية وأعلن نهايتي، وأنى لي ذلك، كيف للإنسان أن يختار عكس اتجاه الزمن، أو عكس ما هو مُقدَّر له.

بعد مدة وجيزة، شكلت أجسادهم دائرة واسعة حولي، أشار واحد منهم إلي بسهم يهُّم بإطلاقه، ظل الكل يصرخ هاتفا اقتلوا الخائن! أقتلوا الخائن! تعالت الأصوات وتعاظم الصخب لكنه همد فجأة، بسبب صوت قادم من أحدهم، كانت فتاة تطل البراءة من سحنة وجهها، كنجمة استنار بضيائها الليل الحالك، وبثقة عالية أردفت قائلة: أليس لديكم أشغال تنصرفون إليها، أليس لكم ما يلهيكم عن هذا الإنسان الذي اختار أن ينسحب من عالمكم، ألا تعرفون أن تدعوا كل شخص وشأنه؟ امضوا في حال سبيلكم واتركوه لقدره، هيا، ألا تسمعون؟ لم تكمل كلامها حتَّى ثاروا جميعا في وجهها وقذفوا بها إلى وسط الدائرة بجانبي، رمقتها بعيون بريئة أشكرها همسا ورمزا على تضامنها، علمت حينها أن الخير لا يزال يجري في عروق الأتقياء الذين يعيشون لأجل الحق، لكنني تأسفت لحالها، وتحسرت على ما أودت نفسها إليه في سبيلي، كانت هادئة لا يتخللها جزع ولا جبانة…انتبهت بعد ذلك إلى وجود راميان يصوبان نحونا، ضللنا نتأمل مصيرنا المتخفي خلف السِّهام، لم يكن أمامي سوى الدعاء، فهمست بقلب خاشع، اللهم اكفناهم بما شئت، لم تمر ثانية حتى انطلق السهم صوبي، لم يصبني لكنه اندس بين ملابسي ثم حملني إلى الأعالي معه كفريسة أمسك بها نسر جارح، طار بي فوقهم، فرأيت أشداقهم مفتوحة والعيون تتأملني مشدوهة متعجبة.

صرخت بأعلى صوتي طالبا من السهم أن يعود، كيف لي أن أتركها وقد ضحت من أجلي…لكنه لم ينصت إلي وظل يحلق…حاولت أن أفلت منه لأعود لأجلها لكنني لم أستطع.

ارتفع بي في السماء عاليا، ثم ما لبث أن بدأ يدنو شيئا فشيئا حتى بلغ بئرا عميقة، كانت مياهها تومض و تتوهج ضياء فاتنا، ثم فجأة تكلم السهم قائلا: الطريق إلى الله تخوضه الروح وحدها، انزل واجعل روحك تتخلص من كل أدرانها في هذه المياه المقدسة، جاهد نفسك على أن تخرج طاهرا، كن أفضل ما يمكن أن تكون عليه…ارتباني الذعر من حديثه لوهلة، لكنني ارتحت لما علمت أنه بإمكاننا أن نتحدث، عندها قاطعته قائلا: أرجوك أعدني إلى تلك الفتاة لأنقذها من أيدي أولئك البشر، ثم أعود لأنطلق في مسيرتي، أرجوك…أجابني: إنك لست مؤهلاً بعد لتنقذ أحدا، أنقذ نفسك أولا من براثن ذاتك، كن متأكدا أن الله لا ينسى أحدا من رحمته، ثم أفلتني باتجاه البئر، فسقطت داخله. كانت كل ذرة ماء فيه تتأجج دفئا منيرا وتضيء المكان بأسره، عكس كل الآبار المظلمة، تذكرت حينها سيدنا يوسف حينما ألقي في البئر، ولم أشك أبدا في أن هذا النور الساطع الذي يسري بين مياهه ما هو إلا نوره الذي أوقده فيه بروحه العفيفة.

أحسست بأن صفاءً بدأ يعم روحي وأن قلبي بدأ يستعيد عافيته، صار سليما لا يشوبه غل ولا حسد، سارت روحي طاهرة رقيقة نقية، غمرني شعور بأنني أصبحت نورانيا شفافا كأنني سراب لا يملك إلا روحه الناعمة المرهفة، حينها تمسكت بالحبل وصعدت إلى أعلى البئر، تفاجأت بأرض قاحلة تحيطني من كل الجهات، قد تشققت أرضها الجافة ويبست، كان البئر هو الشيء الوحيد الذي يتوسط الأرض العقيمة، خرجت وقطرات الماء النقي تتصبب مني وأينما سقطت كانت تزهر وتنبت مكانها أزهار يانعة، كأنها بذور الربيع، تحولت الأرض القاحلة إلى بساط يشع اخضرارا ملائكيا، وصارت الأرض المقفرة جنة ببركة من الله، انبهرت من قدرته تلك التي لا تحدها حدود وظللت أسبح باسمه حتى لم أتذكر عدد ما ذكرته في نفسي، ثم ناديت السهم فانطلق صوبي، حملني وحَلَّقَ بِي حَتَّى رأيت من بعيد صحراء واسعة تتلألأ رمالها، قذفني إليها ثم أكمل طريقه.

وفي شموخ وقفت وأنا أصرخ بأعلى صوتي مبتهجا، لقد تحررت منهم لقد غادرتهم، أنا الآن وحيد بعيد منهم، قريب من نفسي الخيرة، وأخيرا خلوة مع الذات تجعلني أصغي إلى ما بداخلي، وأستمع إلى نفسي دون ضوضاء تُشَوِّشُ علي هدوئي سأختلي لأصلح ذاتي، ثم أعود لإنقاذ الفتاة.

قررت ألا أختلي في ركن منزوٍ، بل سأتحرك وسأجعل لخطواتي آثارا في كل شبر من هذه الأرض، أو لم يقل الله {قل سيروا في الأرض}؟ سأختلي لأرتقي، وإن لم أفعل ذلك فسوف أظل على حالي حتى أفنى عبدا لدوافع خارجية تكبح قواي الداخلية. و هكذا سرت أينما سار كل باحث عن ذاته وعن الله.

تخللني شعور بأن ما قررت فعله سيكلفني الكثير وأنا عبد ضعيف، لكنني تعوذت من الشيطان الرجيم وعرفت أن هذا من عمله، وساويسه تجعلنا دائما نحيد عن الطريق المستقيم. تذكرت بين قرارات نفسي أن العارف بالله لا يهزمه شيطان، ثم انطلقت عازما على أن لا أعود.

في الطريق، عمدت إلى أن أجعل كل حواسي تعمل بكيفية جديدة، فأبصر ما لم أبصره آنفا، وأسمع ما لم أسمعه من قبل. كانت الحياة تبدو لي عجيبة جدا…وكأنني أراها لأول مرة، عيوني لم تبرح السماء وهي تتأمل هدوءها وصفاها، رأيت الله في هالات النجوم المثناثرة، وفي عدد الرمال اللامتناهي، رأيت الله في سكون الليل وفي همسات الرياح، في التلال العالية وفي النخل الباسقات.

رأيت الله في دقات قلبي، التي أصغيت إلى صوتها أكثر من أي وقت مضى، نبضاته كانت تتخلل السكون المهيمن فتعكر صفوته، وتجعلني أحمد الله على كل نبضة حياة، رأيت الله في تنهيدتي وأنفاسي، رأيت الله في سري الذي لا يعلمه إلا هو، رأيت الله في ليله المستنير بالقمر المتوهج، رأيت الله في تتابع الحروف لتُكَوِّن كلمات وجملاً خالصة له وحده، رأيت الله نور السماوات والأرض يحفنا برحمته، كلما لاح في الأفق شعاع جديد، رأيته في البعيد قريبا وفي القريب قريبا، رأيته حتى أدمعت عيناي، فلمحته في كل دمعة تساقطت على خدي، لمحته معي في كل أنين فراق هاج داخل قلبي، الشوق إليه أضناني حبا فيه وعشقا مني، استسلمت له، وأذعنت لمشيئته ملبيا لبيك يا خالقي ورازقي…لبيك.

ظللت أدعوه، حتى أحسست بأنني بدأت أرتفع عن الأرض، كان السهم هو من رفعني، أمسكني مرة أخرى بمخالبه ثم طار بي من صحراء رمالها أشعلت فيَّ حراراة الحب، إلى سهول خضراء تخترقها أنهر من ماء صاف، يختلج أركانه اصفرارٌ مشِّع ناتج عن انعكاس الشمس عليه.

قذفني مرة أخرى حتى سقطت على العشب المبلل الندِّي، سألته عن السبب الذي يدفعه إلى مساعدتي في طريقي، فقال لي: السهم الذي لا يصيبك يقويك، وأنا هنا أمد لك يد العون لتعثر على قواك الخفية، ثم انطلق مغادرا مرة أخرى.

تمددت واسترخيت ورحت أصغي إلى نشيد الطيور المحبة لله، المسبحة باسمه في كل وقت وحين، كانت تطير فوق رأسي كأنها تحييني، ثم ما لبثت الأشجار حتى بدأت تترنح فرحا بقدومي وهي ترقص على إيقاع الرياح الملبية باسم الله.

وهنا أيضا رأيت الله في زخرفة الطبيعة، في ألوانها الفاتنة التي تغرس فينا طمأنينة وسكينة، الأزهار ووريقات الأشجار لها أشكال لا تعد ولا تحصى، كنعمه، رأيت رحمته تبرق من أعشاش الطيور بتآلفها وتآزرها، رأيت قدرة الله في الأنهار التي تسقينا وتروينا من مياهها، رأيته في ثمار الخير التي كانت تسد رمقي كلما جعت، ولا يقارن ذلك الجوع بجوعي إليه، رأيته في تقارب القمم من الغيوم، رأيته في أصغر مخلوقاته وفي أكبرها، رأيته في السماء، حيث قلبي يهتز شوقا كلما نظرت، رأيته في كل شبر من هذه الأرض، الله حي في كل جماد وكائن، الله حي في قلوبنا، وحين يحيى فينا نراه في كل شيء من هذا الكون. وهذا ما كنت أود أن أصل إليه، أن أصل إلى الله فوجدته في قلبي من دون أن أدري، كلما كنت أبتعد كان يقترب بعطف لأقترب منه أيضا، البعد عنه وهو قريب شقوة، والقرب منه جنة لا تنقضي خيراتها، إذن الله كان منذ البداية قريبا مني، وكيف كنت أبحث عمن هو قريب.

غاية الخلق أن نختار الطريق، وهذه هي الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، لكنها أبت أن تحملها وحملها الإنسان، بوسعنا أن نختار طريقنا، أن نندمج مع ما تميل إليه ضمائرنا، أن نسير وفق فطرتنا وأن نحيا لأجل الله وحده، لكن الإنسان كان ولا يزال ظلوما جهولا.

جاءني السهم من خلفي يحدثني بأن مهمة البحث عن الله والذات قد انتهت وآن الأوان لتعود أدراجك… تعالت بسمة على وجهي وأنا أقول: إذا سأنقذها، أجاب السهم بالوجوب، ثم انطلقنا وأنا أدعو الله أن يعينني في مهمتي، وصلنا إلى المكان الذي تملأه الضوضاء والناس، لمحت الفتاة وهي معلقة إلى جذع شجرة تتأوه من الألم. حاولت أن أقفز إليها لكنه منعني قائلا: لا تخف سأنقذها كما أنقذتك، طرنا باتجاهها، أمسكت سكينا كي أقطع الحبل ثم أمسكها السهم كما أمسكني من قبل.

طرنا بها إلى السماء ونحن نلمح الجموع الغفيرة، التي اجتمعت وهي تراقبنا من بعيد، وهي تصرخ وتزمجر، طلبت من السهم أن ينزلني إليهم لأحدثهم، فلقد علمت بعد كل جهادي وحين أنقذت لفتاة، أن لا شر سيصيبني منهم، فالله يحميني من شرورهم وأحقادهم اقتربت وسارت السهام تصوب نحوي بلا توقف، كلها كانت تخطئني، دهشوا مما يرونه لكنهم لم يتوقفوا أبدا، صحت فيهم أما آن لكم أن تعودوا إلى الله؟ أما آنت لقلوبكم أن تغسل من أحقادها؟ أما آن لكم أن تنصتوا إليها بصدق لتدلكم إلى الحقيقة؟ ألم ينهككم الجوع إلى الله بعد ألم تيأسوا من محاوالاتكم الزائفة بأن تخرقوا الأرض وتبلغوا الجبال طولا؟ أما آن لكم أن تعيدوا النظر في ما أسلفتم؟

عودوا إليه، عودوا إلى الحب، عودوا إلى سكينته التي بيدها أن تمحو همومكم، رأيت منهم من تأثر بكلامي ومن لم يزده سوى ظلمة تتربص بعيناه.

أقبل إلي رهط منهم ليكون بصفي، ثم انطلقنا من دون أن يدركنا شيء من شرورهم، قابلت الفتاة، وجدتها وقد استعادت عافيتها، فرحت لذلك، وطلبت منها أن تسامحني لتأخري، ابتسمت في وجهي ثم قالت: في سبيل الحق نحيا، وما من حق نحيا لأجله سوى الله سبحانه وتعالى.

1xbet casino siteleri bahis siteleri