طفلة دائما

لا أدري لم تراودني فكرة العودة إلى الطفولة هذه الأيام.. فعندما أدرك حقيقة أنني لم أعد ألعب في الحي، عندما أدرك حقيقة أنني لم أعد أملك دراجة هوائية، عندما أدرك حقيقة أنني لم أعد أستطيع الركض في الشارع على مرأى من عيون الناس.. يأخذني الحنين إلى طفولتي. لم تكن طفولة سندريلية مليئة باللون الزهري، بل كانت طفولة غرانديزرية مليئة بالإندفاع والإقدام والحرية. كنت أحب اللعب كثيرا، بل إن كل ما كنت أفعله هو اللعب.

أتذكر أيضا أنني كنت طفلة متأملة ومحبة للطبيعة بشكل رهيب.. كنت أحب النظر إلى السماء ليلا، كنت أحب رؤية النجوم. كنت أحس بطاقة عجيبة تملؤني، كنت أحس بأن قلبي ينشرح ليستقبلها، كنت أحس بشيء غامر، بشيء يصلح كل ما كان فاسدا في داخلي. لا أدري لم كنت أحس دائما بأنني أنتمي لفصيلة النجوم وليس البشر، أقصد أنني كنت أحس كما لو كنت جزءً من الطبيعة ككل وليس فقط الآدميين.. رؤية مجموعة من البشر، كانت ولا تزال تشعرني بالغثيان والخوف أيضا.. هو بالنسبة لي ليس مشهدا طبيعيا.. الطبيعي هو أن أرى امرأة قرب شاطئ البحر الأزرق زرقة اللازورد، محفوفين معا بالسماء الصافية الرحبة..
اعتقدت دائما أنه بإمكاني زيارة تلك النجوم ورغبت في ذلك كما لم أرغب في أي شيء آخر.. وفي انتظار تحقيق الحلم، قلت لا بأس.. فلأتشبه بها على الأقل، ماذا لو أصبحت كائنا نجميا ؟ كائنا بعيدا، يملك من البعد ما يجعله مشتهى ومرادا لهذه الدرجة.. كائنا يحترق كي يضيء، أجل علينا أن نحترق كي نضيء، كائنا جميلا!



عندما أتذكر طفولتي وعندما أنظر إلى الطبيعة أختبر نفس الشعور، الحنين.. تلك الرغبة الجامحة في العودة، العودة إلى الأصل.. لا أدري إن كان هذا الشعور المشترك ناتجا عن حبي لهما معا أم أنه مرتبط بطبيعتهما، أقصد لأن بهما شيئا مشتركا.. هل الطفولة هي الحالة الطبيعية للإنسان ؟ أعتقد جازمة ذلك.
إذا لاحظنا سلوك الأطفال سنجد أنها كائنات متسائلة، مندهشة، حرة، مفكرة، صريحة، صادقة. إنها صفات طبيعية متوحشة غير مدجنة تحت مسمى المدنية الزائفة والتحضر المغلوط!
فبمنح الطبيعة الأطفال صفة الدهشة والتساؤل، كان هدفها تمكينهم من التواصل معها ومدهم بمفاتيح قراءتها والتفاعل مع باقي مكوناتها،  بجعلها لهم كائنات حرة ومفكرة، كان هدفها تمكينهم من استخلاص واستنباط قوانينها ومحاولة مقاربتها و استيعابها، ثم بجعلها لهم كائنات صريحة وصادقة، كان هدفها تمكينهم من صياغة منتوجهم الفكري كما هو.. بعيدا عن أية فكرة مسبقة، بعيدا عن الإيديولوجيا و الرقابة. بمنحها كل تلك الوسائل، أرادت أن تجعل من الإنسان راصدا لها بدون نظارات.. فقط بعيون و حس طبيعيين إنسانيين. إن نتيجة هذا الرصد الصادق هي الإبداع.
لكن خلال فترة تأملك ومساءلتك الطبيعة، سيعترض طريقك أيها الإنسان كائن ثقيل الظل.. كائن سيفرض عليك أن تخوض تجاربه وأن تعيش تفاصيله المملة، سيحاول أن ينتشلك من نفسك ومن حالتك الطبيعية، سيدخلك في دوامة العلاقات والإلتزامات والواجبات.. سيرميك بحجارة الضجر والملل والإحباط والألم والحزن.. ولكي يثبت أنه لا يريد بك سوءا، سيدخلك بين الفينة والأخرى في فقاعات المتعة والفرح التي سرعان ما تختفي.. إنها الحياة!
الأمر بسيط، كل ما عليك فعله لمواجهة هذا الكائن هو استخدام وسائلك الطبيعية.. استمتع بلحظات الفرح التي يمنحك إياها، لكن سائلها أيضا، تفحصها، وستجد لا محالة أنغاما وكلمات.. فاعزف الفرح واكتبه أما عندما يرمقك بنظرات الألم و يغرزه فيك كالورم، فحاول معالجة نفسك، انزف! أسقط قطرات دمك حبرا على الورق!
أتذكر طفولتي و أنظر إلى الطبيعة و أقول قولا درويشيا : ‘ و تكبر في الطفولة يوما على صدر يوم ‘.. فمنذ أدركت أن كل ما نمر به في هذه الحياة ما هو إلا محاولة لتشويه حالتنا الطبيعية، و أنا أحرص على رعاية الطفلة بداخلي.. حتى أبقى طفلة دائما..
إننا نولد بمخزون وافر من النضج و الفكر الحر المبدع و المجنون، و التحدي الذي يطرح أمامنا هو الحفاظ عليه و حمايته من التشوهات الحياتية التي تلحقه.
توأم الطفولة و الطبيعة هو الحل، هو الدواء.



1xbet casino siteleri bahis siteleri