عن جبل اسمه رضوى

 

 

 

 

 

 

لم أكن يوماً قارئة نهمة لذا ربما أمضيت وقتا طويلا لأكتشف هرماً آخر يحق لمصر أن تفخر بإنجابه، إنه هرم من لحم ودم وكتلة أحاسيس، هرم لم يُبْنَ من حجارة بل خلد اسمه بكلمات تحفر عميقاً في الوعي وتحلق بك عالياً في عالم الأفكار.

كان شتاء سنة 2014 شتاء دافئا لا لشيء إلا لأنه جعلني أهتدي لاقتناء رواية “ثلاثية غرناطة” التي لم يكف الأصدقاء عن إخباري أنها واحدة من الروائع.

أعترف أني أصبت ببعض الخيبة بعد قراءتها ولا أدري إن كان السبب وضعي لتوقعات كبيرة جدا أو لأني كنت أبحث عن شيء لم أجده، لكن برغم تلك الخيبة الطفيفة ظل هناك شيء يشدني لمعاودة الغوص في فكر رضوى، كان الشيء الذي ربطني بهذه السيدة أني طوال مدة قراءتي للثلاثية لم أكف عن التساؤل عن هذه الكاتبة التي تكتب بحرف عربي رشيق يأخذك يمينا وشمالا ويسلب لبك من فرط فصاحته ويجعلك تترنح لعميق بلاغته، كل كلمة تصيبك في مقتل، كل حكاية ضمنتها الثلاثية كانت كما لو أنها تأخذك من يدك وتبتلعك في ثناياها…حي البيازين، بيت مريمة، خيالات سليمة، معارك سعد، حسرة أبي جعفر، الجو المهيب لحرق الكتب في رمزية لحرق التاريخ الإسلامي الذي دق أوتاده في عمق الأندلس.

مقالات مرتبطة

رضوى كما لو أنها حملتك أنت ابن القرن الواحد والعشرين وطافت بك أزقة الأندلس وجعلتك تأكل في صحن واحد مع باعتها وأبنائها، لأول مرة كنت أقرأ عن الأندلس دون تلك العقدة التي اجتهد غيرها في تأصيلها، عقدة الهزيمة ودور الضحية الذي نتقنه...على عكس كل من سبقوها كان سردها يجعلك تسأل نفسك لم وقع كل ذلك؟ وهل هو حتمية تاريخية تحكم هذا العالم، لكل علو أفول ولكل انحطاط انبعاث ولو بعد حين!

ثم كان اللقاء الثاني معها في الطنطورية، إنها من جديد رضوى التي تجتهد في الحديث عن القضايا التي نتلعثم ونحن نفكر فيها، أما هي فلا تخطىء هدفها، تخاطب عقلك أولاً، تخاطب وعيك وتستفز أفكارك لتعلن عن وجودها، وأنا أقرأ الرواية كنت أدرك في كل حرف أن هذه السيدة التي تكتب تعلن عن وجودها الطاغي، تعلن عن مواقفها بكل جرأة ووضوح، إنها لا تحتاج للتحايل لتخبرك أنها ضد أوسلو وأنها فلسطينية كما كل فلسطيني وإن كانت تحمل جنسية مصرية.
مع رضوى ستنسى أنك تقرأ لامرأة وربما لن تهتم بجنس من يكتب لأنها رسمت خطاً خاصاً بها، يعلن عنها مع كل فقرة، مع كل فكرة، مع كل موقف تجعلك تأخذه، متسائلا من أين لهذه المرأة كل هذه القوة والجمال معاً.
المرأة التي تزوجت فلسطينياً رغم ما كان يعنيه الأمر من معاناة متوقعة، تلك التي عاندت أهلها لأنها آمنت برجل اسمه مريد، ثم أتى من صلبه رجل آخر طبع فكرنا نحن من عايشنا الخيبات المتتالية، نحن الذين عايشنا الانتفاضة الأولى أطفالاً خدج لا نعي شيئاً، وعايشنا الثانية مراهقين تائهين يملأ الصخب قلوبنا ويسكننا الأمل، كان هو صوتنا الذي يصدح بما يعتمل بداخلنا دون أن يكون له أن يخرج.

انها رضوى التي خلدت آخر أيام حياتها في أثقل من رضوى، أخذتنا معها في رحلة مرضها وتالمنا كما لو كانت قريبة أو صديقة، ومع ذلك كنا في كل مرة نسأل أنفسنا من أين لها بكل هذه القوة لتخلد تلك اللحظات المؤلمة بكل تلك الجسارة والتسليم لأمر الله، إنك تدرك وأنت تقرأ جزءا من سيرتها الذاتية أنك أمام إنسان من طينة خاصة، من صنع خاص غير مألوف، تلك المرأة التي أصرت أن تنزل ميدان التحرير في عز أزمتها، تلك التي ربت تميمها لفترة وحيدة وتحملت إبعاد زوجها عنها، بل وأنجزت وألفت ودرست كما لم يفعل أحد من قبلها برغم كل ما سبق وبفضله.

رضوى التي نحب ليست رضوى الكاتبة فقط، ليست تلك التي سافرنا معها في حكاياها المتقنة الحبكة، رضوى التي نحب هي تلك المرأة التي ناضلت من أجل ما تؤمن به، تلك التي نقلت أفكارها ومبادئها لحروف تتكلم، تلك التي تركت وراءها زخما من المحبة العابر للقارات، وإني أجزم اليوم أن آلافا على امتداد الوطن العربي يشعرون بالانتماء لرضوى، وهم ممتنون لجمال حرف رضوى الذي عرفهم على مجد اسمه الأندلس وسافر بهم بين ثنايا فلسطين وأخبرهم عن زاوية حالكة اسمها السجون ومنحهم الفرصة للاقتراب من رضوى الإنسانة بضعفها وقوتها وآمالها وآلامها ومخاوفها.
أن هؤلاء الآلاف هم أنفسهم الذين يبحثون في كل ركن عن أثر يشبه ما تركته رضوى، إنهم أولئك الذين يصرون على البقاء على مبادئهم لأنهم تعلموا منها أن الحياة مواقف وأنه رغم كل هذا السواد الذي يحيط بنا فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن الحياة تستحق أن تعاش بأمل لأن هناك احتمالاً بتتويج مسعانا بغير الهزيمة ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيى.

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri