قوة الإيثار في زمن الأزمات

في ظل الأزمة الراهنة التي تعرفها بلادنا، وفي هذا الوقت العصيب نحتاج وبشدة أكثر مما مضى لمن يشحن طاقتنا بالإيجابية ولمن نرتشف منه جرعة من الأمل والتفاؤل، في وقت ساد فيه الحديث عن عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد وعن عدد الوفيات المسجلة- رحمة الله عليهم أجمعين- نحتاج فعلا لمن يساعدنا في الحفاظ على صحة وسلامة عقولنا وأفكارنا وعدم جعلها منغمسة في الخوف والسوداوية.

عندما تقع الكوارث تتسارع وسائل الإعلام إلى تضخيم التقارير، وتميل إلى تسليط الضوء على غير النافع من الأخبار، فتراها مركزة على شراء الذعر، نفاذ المواد الاستهلاكية، والقتال حول ورق التواليت، وطائرات تستعد لرش سوائل للتعقيم والتطهير، وغيرها من الأخبار الزائفة التي تُتداول وتنتشر كالنار في الهشيم. ولكن هناك وبجد جوانب أخرى لا محالة أنها الأهم، ويجب أن تحظى بالأولوية الإعلامية ومن ضمنها الحملات التحسيسية بالإجراءات التي يجب اتخاذها لمواجهة فيروس كورونا، والتي يقوم بها المجتمع المدني والمتطوعون على حد سواء، والتعبئة الهائلة من طرف المحسنين لمساعدة الأسر المعوزة والمتضررة من هذه الجائحة، وذلك عن طريق توزيع القفف الغذائية أو المساعدات المالية، بالإضافة إلى مطهرات كحولية وقفازات طبية، بالإضافة إلى ظهور مجموعة من المبادرات التضامنية الملموسة على شبكة الأنترنت كمبادرة “نتسخر ليك بقا فدارك” والتي تهدف إلى توصيل الأدوية والمواد الغذائية مجانا للأسر المتواجدة بمختلف أنحاء المدينة، هذا وأيضا نجد مجموعة من الشباب حرصوا على تقديم الدروس للتلاميذ سواء على منصات تعليمية أو على قنوات باليوتيوب، ولا ننسى أيضا من سخروا منازلهم وإمكانياتهم للأطقم الطبية، وهلم جرا…

الخبر السار هو أن هذا النوع من المبادرات هو الأصل والقاعدة، فالأزمات التي نمر منها تبرز أفضل ما فينا، وحسب دراسة قام بها مركز الأبحاث والكوارث بجامعة ديلاوير حول كيفية التصرف في أوقات الأزمات، كانت النتائج مفرحة ومبهرة في الٱن ذاته، إذ عندما نتعرض للكوارث فإن الغالبية العظمى من الناس تظل هادئة وتسعى جاهدة لمساعدة الٱخر، بحيث ينخرط معظمنا في الأنشطة التي تهدف لمساعدة الغير، والتي تؤيد المجتمع في العطاء والتطوع، ففي أوقات الأزمات نسعى أن نكون أفضل لذواتنا ولغيرنا وأن نتذكر أننا معا، وننسى الأنانية ونساعد من هم في أمس الحاجة إلينا، ونطمئن ونرعى ما نستطيع، وبذلك نكون قد حققنا معنى من أسمى معاني العطاء وأعلى مراتبه ألا وهو الإيثار.

يعتبر الإيثار أعلى قيمة أخلاقية في معظم الأديان، فديننا الحنيف يعتبر الإيثار أعظم منازل العطاء والبذل، فهو يدعو لتفضيل الغير على النفس والسمو بالنفس إلى درجات السخاء، فالمتحلين بهذه الصفة يعتبرون من المصلحين في الدنيا والٱخرة، وقد أثنى عليهم جل في علاه بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر]

وفي مدح الإيثار يقول أحمد محرم:

المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ *** يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطارِ
والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ وخيرُهم *** مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ

وتصف اليهودية الإيثار بأنه الهدف المنشود للخلق، في حين تعتبره الهندوسية عملا إلهيا مقدسا، وتذهب البوذية إلى أبعد من ذلك متمنين السعادة لجميع الكائنات الحية.

وفي هذه الأزمة الحالية والتي تهم الناس قاطبة، يظهر الإيثار وبشكل كبير، فهو الأداة التي تجعل ذاتنا وذوات الٱخرين في الأعلى وهو المحيي لأحاسيس أكل الدهر عليها وشرب، كما أنه ضروري للتغلب على تفشي المرض.

لا يمكن إيقاف الفيروس التاجي إلا إذا أدركنا أننا جميعًا مترابطون. تؤثر أفعالنا بشكل خطير على الآخرين كما يلخصها هنا ماركوس أوريليوس في قوله: “لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك، ما لا يفيد السّرب لا يفيد النحلة لا مجد لنحلةٍ في خليةٍ منهارة.”
فهذا هو الوقت الذي يجب أن نأخذ فيه الحكمة من القدماء الذين كانوا على علم بالأوقات العصيبة، وكيفية تجاوزها والنجاة منها. وخير ما نستدل به قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سئل: ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك (لا للإشاعات)، وليسعك بيتك (البقاء في المنزل)، وابـكِ على خطيئتك (الاستغفار والدعاء).

وكما علمتنا الحربان العالميتان معنى حقوق الإنسان وقيمة الأمن والسلام، فبلا شك أن أزمة كورونا ستكون سببا في إعادة بناء أولوياتنا وإبراز قيمة العلم والعلماء والقيم الأخلاقية؛ كالتضامن والتآزر في زمن غابت فيه الروح وسادت فيه المادة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri