ما لا تعرفونه عن التعليم الجزء الثاني: الاختيار

الحصة الأولى أشبه بفيلم رعب تعتقده لن ينتهي، تلك المواجهة الأولى مع التلاميذ تجعلك تدخل في متاهة من الأسئلة…ماذا سأقول لهم؟ ما الذي علي أن ابدأ به؟ هل أعرفهم على نفسي…هل يجب أن يعرفوا إسمي أولا؟ هل علي أن أبدو صارمة، أم لا بأس إن أظهرت بعض العاطفة؟

تضيع أفكارك أكثر إن حاولت الاضطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة من خبرتهم، سيرمي بك كل واحد منهم شرقا وغربا ويمينا وشمالا…لن تجد ضالتك أبدا، ثم ستحاول الإطلالة على ما يقوله العلم والديداكتيك والنظريات البيداغوجية والنفسية…التي ستجعلك أكثر حيرة وتحيرا!

مقالات مرتبطة

تدخل القسم محملا بتاريخ طويل من الخبرة داخل المدرسة العمومية التي تخرجت منها، تستحضر في يومك الأول كل من علموك منذ وطئت قدماك المدرسة، ثم تتساءل أي المعلمين ستشبه؟ تمر كل صور من علموك أمامك تباعا، تضيع بين تفاصيلهم فلا يزيدك الأمر إلا ترددا.
لكن لحظة الحقيقة سرعان ما تأتي فيكون الارتجال سيد الموقف، تتهاوى كل السيناريوهات التي وضعتها مسبقا لتبرز شخصيتك معلنة عن نفسها أمام الجموع.
قد تنجح في الأيام الأولى في تقمص شخصية لا تشبهك وستحاول جاهدا أن تحافظ على هالة الوقار التي تحيطك بها، بعض الناس يستمرون في هذه اللعبة طويلا، يلبسون ثوب المدير أو القاضي أو الحكيم…يمارسون مهنهم بالحد الأدنى من المشاعر أو بدونها تماما، لكن غالبا سرعان ما يبدأ الصراع الداخلي في تسيد الموقف فيضطرك إلى اختيار نفسك أو اختيار الشخص الوهمي الذي صنعته والذي سرعان ما سيصبح أنت.
الذين يختارون الشخص الوهمي تجدهم يهيمون بعيدا عن عمق الرسالة التي يحملونها، يمارسون التعليم بلا روح ولا هدف ولا غاية، تجدهم ولجوا ميدان التعليم مضطرين لأنهم لم يجدوا خيارا آخر، تأكلهم الرتابة ويفرغون كل مشاكلهم في ذلك الكائن الذي أؤتمنوا عليه، هذا الكائن الذي قد يكون عدوانيا أحيانا، مزعجا أحيانا أخرى، قليل التهذيب في بعض الأحيان، متمردا أو صداميا…أيا يكن فإن تربية هذا النشء يتطلب كثيرا من الحب والحكمة والصبر وبعد النظر، هذه الصفات لا يمكن أن تتوفر فيمن اختار التعليم اضطرارا وهربا من شبح البطالة، غالبا ما يعتبر أنه ضحية لهذا النظام التعليمي البئيس وتعييناته الكارثية أحيانا وظروف العمل أكثر كارثية، ثم ما يلبث يتحول إلى موظف كأي موظف آخر يحصي الساعات والدقائق كي يفتك من خناق القسم وما يتطلبه من جهد وروية، ثم يصبح مع الوقت آداة للقمع والتسلط متعمدا أو غير متعمد، ذلك أنه نفسه نتاج نظام تعليمي رسخ في الأذهان لمدة طويلة أن العصا لمن عصا وأنك يجب أن تلجأ إلى العنف لأنه السبيل الوحيد لفرض الاحترام وترسيخ النظام.

في المقابل يظهر الفرق جليا عندما يقبل المرء على المهنة وهو مدرك لما ينتظره من تحديات نفسية واجتماعية، فهو رغم كل الصراعات التي يحياها سيحاول جاهدا تجنيب المتعلم الدخول في معتركه.
الأمر لا يبدو سهلا إطلاقا وقد يدفع الكثيرين للاستسلام خاصة عندما يتعلق الأمر بمجتمع فقد فيه المعلم تدريجيا مكانته في الذهن الجمعي، فهو كمدرس عليه أن يواجه نظرة المجتمع التي أصبحت ترمي بسهامها إليه كأنما هو عدوه الوحيد والأوحد، عليه أن يثبت براءته فهو متهم دائما، عليه أن يواجه إنسانيته ولحظات الضعف الكثيرة التي قد تجنح به إلى العنف أو الصراخ أو الانهيار أحيانا، عليه أن يواجه ظروف العيش الجديدة التي لم يعتدها قط وأن يتأقلم مع مجتمع مختلف تماما عن المجتمع الذي نشأ فيه…كل هاته الأشياء التي عليه أن يواجهها وحده لا يملك إلا سبيلا واحدا للخلاص من قبضتها، إنه الحب الذي يزرعه في نفوس متعلميه، ذلك الحب الذي يجعل كل هذه العقبات تتهاوى تباعا وتجعل منه أكثر من موظف يؤدي مهمة مدفوعة الأجر.
الحب الذي سيجعله يجد نفسه ويساعد متعلميه في إيجاد أنفسهم، إنها تلك العاطفة الأبوية الخالصة التي ستمنحه القدرة على تحمل كل حماقات متعلميه وتفهم ضعفهم واختلافهم وتقبل شغبهم ومحاولة العبور بهم ومعهم إلى بر أمان يكون فيه التبادل هو أساس كل شيء.
إنك كأستاذ عندما تنظر لتلاميذك نظرة مغايرة عما ألفته دوما وتشعرهم أنهم جزء منك وأنت كذلك وأن القسم هو مملكتكما معا له الحق في أن يكون فاعلا فيها كما الحال بالنسبة لك، وأن الخطوط الحمراء هي قوانينكم التي تعارفتم عليها وصادقتم على مشروعيتها، وأن واجباته المدرسية هي الشرط لتفعيل التعاقد وأن واجبك في إيصال المعلومة وتشريح الدرس أمامه كأنه عضو جديد تكتشفانه معا هو الفصل الأول من فصول القانون الذي وضعتماه معا، إنك عندما تفعل ذلك فإنك تختصر على نفسك مسيرة طويلة من تجريب الطرائق وتمحيص النظريات التعليمية، ستكتشف رويدا رويدا أن الحب كان مدخلك لقلوب الصغار أولا قبل أن يكون مدخلك لعقولهم ووعيهم…ساعتها لن تضطر للاختيار بين الشخوص الكثيرة التي حاولت جاهدا تقمصها دون أن تفلح…سيكون كافيا أن تكون نفسك البسيطة المحبة المقبلة على التعليم بحب وبه فقط.

1xbet casino siteleri bahis siteleri