عن التعليم الذي لا تعرفونه. الجزء الأول: زاوية نظر!

يتعلق الأمر دائما بطريقتنا في رؤية الأشياء، قبل تعييني كان الخوف مستبدا بداخلي، لكن يقينا صادقا كان موجودا بالمقابل…اليقين بأن ما سأعيشه مكتوب في لوح محفوظ وأني سأراه بإرادة مني أو بدون إرادة والمحك الحقيقي أن أتعامل معه بأحسن الطرق الممكنة…لكن إنسانيتنا تأبى إلا أن تطغى علينا، الخوف سيكون دائما موجودا، الصعوبة في التأقلم، الشعور بالوحدة، التفكير المطول…لكننا في الأخير نتعود ونكف عن التفكير، أما الخوف فهو شعور قد تزداد حدته مع الوقت أو تخف بقدر المساحة التي نليها له.

عند التحاقي بمكان تعييني كانت الصدمة هي التوصيف الأدق لحالتي، قرية معزولة عن كل شيء لا يحد من وطأة عزلتها إلا مناظر تسلب اللب والعقل، شعرت كما لو أنني أستودع بمكان قد أرجع منه وقد لا أرجع، هممت غير ما مرة أن أحزم حقائبي وأعود أدراجي غير آسفة بالمرة، لكن شيئا ما-دائما-كان يجعلني أبقى، طيلة الشهرين الأوليين كنت أطرح السؤال على نفسي “لم لا أترك كل شيء وأمضي…” السؤال كان ملحا ولم يخفف من إلحاحه إلا تلك الأرواح البريئة التي سعدت بصحبتها، كان عالما جديدا سمح لي القدر باكتشافه، عالم مختلف تماما عن ما ألفته أو عشته، اقتحام عالم الأطفال بدا ساحرا وأصبحت مع الوقت كمن يتمرغ في العسل، يتردد أول الأمر لكنه ما يلبث أن يستمتع مع مرور الزمن.

قبل مجيئي لتلك القرية كان الناس ينقسمون عندي إلى أشرار وأخيار، طيبين وآخرين ملأتهم الأحقاد، هذه الحقيقة المسلم بها ستصبح شيئا من الماضي، هناك اكتشفت معنى آخر للإنسانية ومغزى آخر للوجود، الناس لا ينقسمون إلى قسمين، نحن قسم واحد، تتنوع طراقئنا في العيش و تختلف وسائلنا لإيجاد مكان لنا في هذا العالم.

 

أزعم أني هناك اقتربت من الجوهر الإنساني أكثر، تلك النفس الباحثة عن ذاتها بين ثنايا عالم مليء بالأحداث، تولد على فطرة الحب والعطاء والتعايش، تولد بأحلام كبيرة وبآمال مزهرة، تولد ببراءة لا يفسدها إلا التمدن وما يصاحبه من مادية.
هناك عرفت معنى آخر للأشياء وأن الإنسان غير ما يبدو وغير ما يظهر من جلافة وقسوة وكبر، أغلبنا يلبس الأقنعة محاولا أن يخفي حقيقته أو شيئا من الماضي قد يكشف عن كنهه، أغلبنا يعيش في جلباب شخص آخر ليضمن أنه سيستمر في هذه الحياة بأقل الأضرار الممكنة.

مقالات مرتبطة

جميعنا يبحث عن الحب وعن الاعتراف لكن الطرق في تحصيل هذا الحب وهذا الاعتراف تختلف من شخص إلى آخر، بعضنا يبحث عنه بالقوة، ينتزعه انتزاعا من الآخرين إذ يعترفون بسطوته وقوته وسلطته، بعضنا يبحث عنه بالعطاء، بالبذل في سبيل الآخرين، بعضنا يبحث عنه بالتمرد على كل شيء ساعيا ليكون أيقونة بين أقرانه…كل يجنح إلى وسيلة ما تشبع رغبته الدفينة وحاجته الفطرية إلى الكينونة.

هناك كان الأمر جليا هم ليسوا بحاجة إلى التخفي، إنهم يعلنون عن أنفسهم بكل البساطة الممكنة، ليسوا بحاجة للف والدوران كثيرا، عندما يرغبون في شيء فهم يعلنون عنه بكل سلاسة وبساطة، لا يخفون إعجابهم بالأشياء ولا دهشتهم عند النظرة الأولى ولا رغبتهم في امتلاك شيء لك…الكذب كان شيئا نادرا فهم يكشفون أنفسهم بأنفسهم إذا ما التجؤوا إلى الأمر، تفضحهم أعينهم واحمرار خدودهم، يترآون لك كصفحة مكشوفة لا تفلح في التداري.

كانت هذه البساطة سببا بشكل ما في بقائي بادئ الأمر، كنت استمتع بروعة الاكتشاف وأنا بصحبتهم، تلك الأحلام البسيطة جدا والتي لا تًعد أحلاما حقا كونها بديهيات بالنسبة لنا، تلك الحاجة في التكتل و الانتماء لعائلة كبيرة عددا لتشعرك انك في حماية وكنف، ذلك التوق للآخر ليعترف بوجودك وموقعك على الخريطة، تلك الغلظة المصطنعة التي تتهاوى فجأة وهم يحكون عن فجائعهم، ذلك الارتباط بأبنائهم والتصاقهم بهم لأنهم موجودون من أجلهم وبسببهم.

كان عالما جديدا بالنسبة لي أتعبني بادئ الأمر، لكني أحببته في النهاية، رغم كم المغالطات التي تسكن العقول وهيمنة الشعوذة والتأويلات اللاعقلانية وسيادة الجهل، لم يكن الأمر متعمدا من طرفهم، كانت تلك الطيبة المختلطة بالسذاجة بما نسميه في عاميتنا “النية” السبب الأهم والأبرز، الأمية سبب أساسي لا شك، التعليم بالكتاب وتقليديته الموغلة في القدم، عدم مسايرة المدرسة لمحيطها ولا محاولتها زعزعة المفاهيم المستقرة هناك منذ القدم، كانت أسبابا أساسية أيضا.

بعد مرور الشهرين أصبحت مؤمنة أن لي دورا بذلك المكان وأني لم أمر به عبثا وأن تلك الأشياء التي كنت آسف على فراقها في المدينة ويصيبني الحنين إليها ربما لا تعادل قبس سعادة تحسه وأنت تقتحم عالما آخر مختلفا عن عالمك، محاولا أن تلتمس منه بعض الفطرة وأن تزرع فيها بذرة زيتها مضيء.

1xbet casino siteleri bahis siteleri