هل تعلم ماذا تريد؟

لأسباب مجهولة حتى الآن، تملكني حينها اعتقاد أن الله عز وجل قد حباني صوتاً مميزاً، وأني ما خلقت إلا لاستغلال هذه الهبة، وليس عليّ إضاعة الوقت، فقررت وأنا في العطلة الصيفية بإحدى سنوات دراستي الثانوية أن أتوجه إلى قصر الثقافة بطنطا، تلك المدينة التي هُجّرت إليها من السويس بعد هزيمة عام 1967، فهناك بوسعي أن ألتحق بكورس أغاني التراث الشعبي، مثل الزملاء العظماء سيد درويش وغيره! كان ذلك أوائل السبعينيات ، حين دخلت الدرس متأخراً قليلاً، جلست في الصف الأخير.



في الصف الأول كان المدرس العجوز يعزف على البيانو بوقار شديد، وكان تلاميذه يرددون وراءه تلك الطقطوقة الشعبية الشهيرة “يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح”، فعلت مثلهم، اندمجت تماماً، غنيت بحماسة وقوة.

ألم أقل لك إنني ما خلقت إلا لذلك؟! كان المدرس يلتف كل برهة يمنة ويسرة وتبدو على وجهه ملامح الضيق، ثم توقف الرجل عن العزف فجأة والتفت إلى الوراء باحثاً في الوجوه. كان مساعده على مقربة مني وفهم مقصد أستاذه فصاح مباشرة: “من هنا يا أستاذ من هنا”، وما إن منحنا الأستاذ فترة استراحة حتى وليت هارباً، فقد كان الرجل يشير ناحيتي وهو يكلم أستاذه. لا بأس، إذا كانوا لم يقدّروا موهبتي فلمَ لا أجرب مجالاً آخر، الرقص الفولكلوري مثلاً، أو التمثيل، وكلاهما بالفعل خضت تجربته، تماماً مثل الموسيقى، فقد تعلمت العزف على الكمان قليلاً، وفي أحد الأيام أجلست أفراد عائلتي رغماً عنهم لأعزف لهم مقطعاً، وحاولت عبثاً إقناعهم بأنه من أغنية شهيرة لأم كلثوم. وقد لاحظت بعدها أنهم انصرفوا عن سماع أغانيها.

كانت القراءة حاضرة دائماً، لكن أقرب التجارب إلى قلبي كانت التصوير الفوتوغرافي، وبالموازاة نشطت مع منظمة الشباب التي كانت فرعاً للاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الأوحد في الدولة، والتحقت بمعسكراتها حيث كنا نحن معشر المتدربين نمر بدورات سياسية مكثفة، وقد أثر هذا كثيراً في تفكيري وسلوكي.

توجهت ذات مرة في تلك السن المبكرة إلى منتزه رومانسي، كان الحضور في مقهاه شباناً وفتيات، كل اثنين يتناجيان ويتهامسان، الجالسة قبالتي كانت تتوقع شيئاً ما، قولاً أو فعلاً، غير أني اندفعت خطيباً مفوها أشرح معركة عبد الناصر والسد العالي، وهو ذات المشهد الذي أداه مبدعاً نور الشريف في فيلم شاهدته لاحقاً، ودهشت، وشعرت حينها بأنني لست وحيداً في هذا المصاب.



كنت في تلك السنوات مضطرباً للغاية، على رغم قناعتي المبكرة وأنا في سن الابتدائية بأن الصحافة هي قبلتي، لكن طاقة الشباب جبارة، إنها تقنعك بأنك تملك كل شيء وبوسعك أن تفعل أي شيء، وأن أمراً واحداً لا يكفيك، وأن بمقدورك هدم العالم كله عن بكرة أبيه وإعادة بنائه من جديد على أسس تؤمن أنت بها.

كان عقلي يعمل على مدار الساعة، أطرق كل الأبواب، وأجرب كل الأشياء، وحماستي فيضان يكاد يجرف بي هنا وهناك.

كنت أحاول أن أجعل قيمي التي اخترتها آنذاك هي الثابت في ذلك كله، الضياع هو العفريت الذي يطل عليك من كل ناحية، يقول لك لقد هلكت، أنت لا تعرف ماذا تريد، لقد انتهيت، والحقيقة أنك ابتدأت، نعم.. ففي هذه المرحلة من “الضياع”، تعد مرحلة “لا أعرف ماذا أريد”، مرحلة لذيذة برغم آلامها، لأنها ببساطة علامة البدء والميلاد. لا مشكلة في ألا تعرف ماذا تريد، ولكن المسألة كيف تعرف ما تريد، ما خططك لتعرف، إنك تنظر إلى الأمور كلها وتحتار، ثم ينتابك القلق، لقد سقطت في التيه، لكن الأهم أن تدرك أن ذلك من طبائع الأشياء وأن الأولى أن تضع خططك حتى تصل في النهاية إلى أن تعرف ماذا تريد.

قد تحدد قائمة بالخيارات، وتقارن بينها، وتحسب حساباتك، لكن القول الفصل هو لأمر آخر، تقول حكمة الأيام عليك بالتجربة، كيف تحكم على الطعام دون أن تتذوقه، بالله عليك ماذا ستخسر إذا جربت؟ لا تجربة خاسرة مهما بدا لك الأمر غير ذلك، تفقد بعض الوقت، وتفقد بعض المال، وتفقد بعض الجهد، وتكون محل استهزاء وتهكم البعض، لكنك في المقابل تكسب كثيراً، معارف ودرايات وخبرات ودروساً عظيمة، أدناها أنك تأكدت أن هذا الاختيار لا يناسبك، عليك أن تبحث عن غيره، فتطيح به نهائياً من قائمتك واهتماماتك.

يحل الأمر بالناس فيختلفون في التعامل معه، يتباين أداؤهم، وهنا مربط الفرس. يقول الكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي إن التجربة ليست ما يحدث للإنسان، بل ما يفعله الإنسان حيال ما يحدث له، وذلك يذكرني بقصاصات الأوراق التي كنت أحتفظ بها وأنا فتى مذيلةً بما يقع بين يدي من حكم الحكماء.

أينشتاين مثلاً قال إن الشخص الذي لا يرتكب أي أخطاء لم يجرب أي شيء جديد، وقرينه الفيزيائي الأميركي ريتشارد فاينمان قال: ليس مهماً مدى جمال نظريتك ومبلغ ذكائك، فما دامت النظرية لا تتفق مع التجربة فهي خاطئة.أما سيدنا كونفوشيوس فقد ذكر أن العظمة ليست في ألا تسقط أبداً، ولكن العظمة أن تنهض كلما سقطت.ويقول المثل الروسي أول فطيرة لا تنجح. أما الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو فيقول إن ما يصطلح على تسميته بصورة رومانسية عبقريةً أو موهبةً أو إلهاماً أو حدساً، لا يعدو أن يكون العثور على الدرب الصحيح عن طريق التجربة.

في أحد المراكز الإسلامية في فرانكفورت، قال حسن؛ الشاب المصري القادم لتوه مهاجراً لمدير المركز: سيدي لن أزعجكم مثل الآخرين، ولا أريد منكم أي مساعدة سوى تأمين عمل وسكن مناسب لي. ضحك الرجل وقال له لقد طلبت الأعظمين، وإلامَ يمكن أن يحتاج المرء غير ذلك؟ لقد سألتَ كل شيء. حسن أحسن مثالاً من آخرين، فعلى الأقل غامر ووصل إلى أوروبا، فيما لا يحب الآخرون من شبابنا في العالم العربي، إلا من رُحم، التجربة أو المغامرة مطلقاً، إنهم يطلبون الضمانات بالنجاح قبل البدء، يكاد المرء منهم يطلب عقد عمل موثقاً وعقد إيجار مسكن قبل أن يجمع قروشه ليدفع ثمن بطاقة السفر.

هل تريد أن تكون طبيباً أم مهندساً، شاعراً أم صحفياً؟ هل تريد أن تهاجر أم تبقى؟ هل ترغب في هذه الوظيفة أم تلك؟ هل تريد أن تسلك هذا الطريق أم ذاك؟ فكر قدر ما تستطيع أن تفكر، احسب قدر ما تستطيع أن تحسب، ثم اختر ما تميل إليه حساباتك ويزكيه قلبك، وخض تجربتك.



آه من هذا القلب، إنه أحياناً -أو ربما غالباً- يسير في اتجاه عكس اتجاه الحسابات، لكن لا بأس، لا تتردد كثيراً في أن تتبعه. سأقول لك سراً: بعد أن تصل إلى سن متأخرة من عمرك ستجد أن الأشياء عادت إلى حجمها الذي تستحقه، نعم بعض الأشياء تبدو في شبابنا كبيرة جداً عن حجمها الطبيعي، وبعد أن تمضي عمرك تناضل لكي تكسبها تجد في النهاية أنها لم تكن تستحق، على الأقل لا تستحق كل ما بذل من أجلها.

قلبك إذاً هو منارتك في التجربة، وإلا فكيف تصبح طائراً محلقاً في أعالي السماء وتنال البهجة؟، ولا بهجة إلا بعمل بجد وكد، واستماع لمن هو أكبر منك ولمن هو مختلف عنك، الأول يمنحك خلاصة تجربته، والآخر يمنحك الصورة المناقضة حتى تستطيع أن تتبين، و”الاستماع” لا يعني “الانصياع”، بل يعني التفكر وإعمال العقل.

واعلم يا هذا أنك سوف تخطئ، سوف تخطئ كثيراً، فلا بأس، لسنا أنبياء نسير بوحي من الله، كل الذين نقرأ اليوم سيرهم الذاتية أو نشاهدها أفلاماً، بصفتهم أبطالاً وشخصيات خلدها التاريخ، إنما كانوا يوماً في حيص بيص يضربون أخماساً في أسداس، يخطئون هنا ويخطئون هناك ثم يصححون مساراتهم، ثم شبوا عن الطوق عندما كانت لهم عزيمة لا تقهر. هيا، اعمل بنصيحة غوته وابدأ الحياة كل يوم من جديد كما لو أنها بدأت الآن.. نعم استمر بقوة في مسعاك حتى لو رأيت أحدهم يشير إليك ويصيح “من هنا يا أستاذ من هنا”.




هذا المقال منشور في الهافينغتون بوست عربي للإطلاع على النسخة الأصلية أضغط

1xbet casino siteleri bahis siteleri