المجتمع والعُمق

لُغويا يُطلق اصطلاح العمق على قاع الشيء، فيُقال عمق البئر لجوفه، وعكسه السطح. أما في المجتمع، فمخطئ جدا من ظن أن العميق هو ذاك الشخص الغريب الأطوار الذي يلبس ملابس غريبة ويملأُ أذنيه بموسيقى أغرب، أو هو ذاك الشخص المنعزل الفوضوي الذي يظل طوال اليوم سجين غرفته! أو من يرى أت العمق هو أن تنعزل عن العالم وتقطع علاقاتك مع الناس وتسكن في عالم من الأحلام والأوهام.

ببساطة العميق هو كل شخص وضع عقله قيد التشغيل، ولم يتخذ مِن هَواهُ إلهه ليُلهيه عن التعمق في أسرار الكون. العميق ذاك الكائن المتأمل، الدائم البحث عن معنى الحياة وجمالِها. فمرةً في الطبيعة ومرة في فكرة، مرة في صفحة من كتاب، وأُخرى في قلب شخص.

العميق ذاك الإنسان الذي إن أحب يحب بعمق، ولا يُضيِّعُ وقته بعلاقات سطحية كالعلكة تُرمى بانتهاء الطعم منها.. ذاك الذي ينظر إلى لُبِّ الحياة وجوهرها ولا يكتفي بقشورها. هو الإنسان الذي يراه السطحيون غامضا، مُكتفيا بنفسه، مُنتشيا بعزلته، مرتقيا بأفكاره ولو كان بين جموع البشر.

إنسان لا يخشى الوحدة ولا يختبئ من نفسه بغلاف من الأصدقاء الوهميين، العميقُ إنسان ذو علاقة متينة بربه، متأملٌ جمال كونه ويعرف أين هو والطريق إليه. حكيم في التعامل مع الأشواك المفروشة في ذاك الطريق، ويعرف كيف يزيلها من الورد ويصنع منه باقات زاهيات الألوان.

العميق هو الذي يرفض رد الإساءة بالمثل، في الوقت الذي تأتيه الفرصة على طبق من ذهب. فتجده يصفح عن هذا ويعفو عن ذاك، لأن لذة العفو تُشفي روحه أعمق من لذة التشفي. ويبتغي شيئا أكبر من مجرد إرضاء غروره بتجريع من أساؤوا إليه من نفس كأسهم المر.

العميق ذاك الإنسان الذي يجمع بين خفة الظل ورجاحة العقل وعُمق النظر. وفؤادٍ رقيق كأفئدة الطير. يأسره الجمال أينما حل وارتحل. العميقون الليِّنون من غير ضعف، والقويون من غير عنف. الذين لا ينجرفون وراء التوافه ولا تطأ أقدامهم مجالس السوء وحفلات التنكر، حيث تُلبس الأقنعة ابتغاء مصالح وخدمات.

والعمق الفكري يُدرك المرء ببلوغه سن الرشد، هناك حيث تنضج أفكاره، وينظر إلى الحياة نظرة أعمق من النظر أعلاها فقط. حيث يصبح ممسكا بزمام أموره بعيدا عن سيطرة العاطفة وهوى النفس. فالعُمق شيء كالحِكمة يؤتيه الله من يشاء
فالله تعالى يقول: {وًمَنْ يُؤتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269].

مقالات مرتبطة

ويكون عقله الناضج حينها قادرا على الفصل بين الأشياء الصالحة والطالحة، ولا ينجرف أمام أفكار المجتمع الفاسدة ويقلد كل من خلق الله. فيرى الأُمور بدقة وبشكل عميق. ولا يحكم على شخص ما أو فكرة حتى يدرسها بعمق. ولا ينشغل بِغثِّ الكلام وتوافه الأمور عن الأمور الجوهرية المتخفية.

العميق هو ذاك الإنسان الذي لا يلهث وراء الشكليات متناسيا جوهره الأصلي. فالأشياء الحقيقية والصادقة تمحي لديه الكثير من الماديات والمظاهر. والعميق هو من يقرر إعطاء عقله نصيبا من الغذاء عن طريق العلم، عوض التركيز طوال الوقت على لباسه فقط أأحمر أم أصفر. فيعود بالزمن عبر ثنايا الكتب، ليعود إلى ما كان عليه من قبله ويستنبط منه ما وافق دينه وعقيدته وما يفيده في حياته. ويلقي جانبا ذاك السم الأسود “الحبر” المدسوس بين الأوراق، الذي دسه من لم يكن لهم نصيب من العمق حينها. ويصبح متصلا بالله عز وجل، متدبرا كلامه ومفكرا في معانيه. متأملا جمال إبداعاته سبحانه. ليعلم أن هذا الكون لم يُخلق عبثا، وأنه كذلك لم يخلق عبثا، فيعمل لما خلق من أجله. فيحب البحر والشمس والقمر ويتأملهم.

فكيف سنحب الخالق إن لم نحب ما خلق؟ وكيف سنعرفه إن كنا من جاهلي إبداعاته عز وجل؟ فتجد المصابين بداء السطحية وخمول الروح وتأكسُدِ الفكر متربعين على قممها، غير متصلين لا بربهم ولا بأرواحهم يسخرون ممن يغوصون في الأعماق. هذا لأن عقولهم لم تستطع أن تنضج وتتطور. ولم يستطيعوا إلا أن يُلبسوا كلماتهم، كفانا من السخرية والتهكم على من لهم نصيب من النضج الفكري. ليسخروا من كل من يدافع عن مبدأ أو يعبر عن رأي، أو ينظر إلى جوهر الأشياء عوض سطحها. ليكون في نظرهم كل من يغوص في عمق فكرة أو يبحث عن شيء جوهري عميقٌ متفلسف يُعقد الحياة، وهم البُسطاء الذين يمشون مع أمواجها ولا يحاولون إيصال سفينتهم إلى بر الأمان.

ودعونا لا ننسى الجانب المُعتم للإنسان العميق، الذي إن زاد عمقه عن حده ليصبح بذلك إنسانا كثير الاهتمام بالتفاصيل، دائم البحث عن معاني الحياة والأشياء الجوهرية الصادقة، كثير التفكير، غريبا بين قومه، لا هو يَستأنسُ بسطحيتهم ولا هم يغوصون في عمقه. ليكون بذلك ذا حظ قليل من الأصدقاء الذين يشاركونه اهتماماته، هذا إن لم يصل إلى حالة من الوسواس وتشتت الذهن، بل والجنون إثر تعمقه في التفاصيل وكثرة تحليله للمواقف.

ورحم الله الأديب مصطفى صادق الرافعي حيث كتب في تحفته الأدبية وحي القلم:

“وا أسفاه، إن دقة الفهم للحياة تُفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب، وإنَّ العقل الصغير في فهمه للحب والحياة هو العقل الكامل في التذاذه بهما، وا أسفاه، هذه هي الحقيقة.”

فأحيانا، أغبط السطحيين لسعادتهم. فهم الأكثر راحة في الحياة. فمنهم من لا يعيش إلا ليعيش. هَمُّه لقمة رغيفه وراحة جسمه. لا يغوص في أعماق الأشياء لكيلا تؤرقه وتفسد مزاجه وتُرهق دماغه. ومنهم من يعيش فقط مقتنصا لذاته هنا وهناك، ضاربا بعرض الحائط الدين والمبادئ. وليست له حواجز توقفه. طالبا لذة لُويحظة وراحة سُويعة.

لكن الحياة بحاجة إلى القليل من اللؤلؤ لصنع القلائد الجميلة، ولكنه يقبع في عمق البحر، ومحفوف ببعض المخاطر، فغوصوا إلى أعماق البحر كي تجدوه، ولكن قبل ذلك تزودوا بالأُكسجين فهو هناك منعدم، ولا تبحثوا عن اللؤلؤ في الشاطئ، فلن تجدوا هناك غير الزبد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri