بين رفوف الأسفار

كدأبه وجدته جالسًا عند باب حانوته، قطته الصفراء التي أنست بالنوم على فرشة الكتب، ممَددة بسكينة، أفشيت السلام فانتبه إلي، ردّه. جلسنا نتبادل الحديث أحوال التجارة التي تبور، قال لي: ما عاد الناس يقرأون كما عهدنَا يا ولدي، الناس لا تبحث عن الأدب وإنما عن فتاته، لا أحب قول هذا لكنه لعمري عين الصواب، ولا أحب أن أنقص من شأن الأدباء أو دعني أقول الكتاب المعاصرين جهدهم والله لا عذل عليه، تنهدَ ثم وجم.

حمل كوب الشاي ارتشف منه وأنا ساكنٌ كعجوز تعرقَه الدهر لا أدري من المسنّ بيننا، هو أم أنَا. فاسترسل قائلاً: أذكر أيام كنت بدأت أطالع وجوه الكتب أول عهدي بأعمال جبران خليل والمنفلوطي وطه حسين والرافعي وهلمّ جرًا.. للآن لو وددت لطفقت أخبرك من كل عملٍ مقتطف أحفظه عن ظهر قلب.

تبسمتُ ثم تابع بلذّة: أما الشعر، أمّا الشعر يا بنيّ محمد! تعرف؟ قصيدة لأبي الطيب حفظتها مذ أربع وأربعين سنة، ما زالت الساعة لم تتفلت مني..صمت ثم جعل يدندن بأبياتها.. ثم قام وراح يرتب كتبًا عند مدخل الحانوت، والقطة فتحت عيونها بكسل تنظر إليه..

سألته عن كتبٍ بخاطري وجئت إليه من أجلها، افتر ثغره وولج دكانه ليوفرها، صاح من الداخل: أنظر هذه نسخة من كليلة ودمنة لم يقع بصري على مثلها البتة، أنظر كم هي عتيقة يا محمد، المهم! تفضل ما طلبت، المثل السائر وإعجاز القرآن.

وضعتها في حقيبتي منحت طرفي إليه في مودة عارمة، شكرته على حسنه وضيافته وتوفيره لما نحب ونرضى. قلت له: سأمر يا عمّنا على إخوانك في السوق أنظر في أمر أعمال لا أدري لم لا تحبها. قال بغضب عجيب: ايه والله لا أحب بيع الروايات! إلا كتب الأدب الخالد.

أجبته: أما قلت قبل، أنك مولع أشد الولع مذ صباك، بالمنفلوطي والرافعي وطه حسين وكيت وكيت، ها؟

-ها أنت قلتها! مولعٌ، عاشقٌ، متيم، لا بائع لا دراهم من خلفهم، متشدد أنا فحسبك من هذا، إنني أغدو حساسا، فاصنع ما شئت.

انصرفت وأنا ألوح بيميني مودعًا!

أقفلتُ مغادرًا شاكرًا هانئًا، جعلت أرمي خطاي ثم صعدت الدرج الإسفلتي، راحلاً عن عالم صغير، لا أعرف كيف أوصل معناه الحقيق بداخلي، كشيء من العالم السرمدي المليء سرورًا وغبطةً ولا يخفى منه وجه البهجة، تلجه مبتسمًا وتغادره متلهفًا لساعة الأوبة إليه.

سوق بسيط لعيون السابلة، دكاكين تبيع الكتب، ما سر البهجة والغبطة؟ منها وإليها وفيها! أناس أكل الزمان عروقهم وساستهُم الأيام هنا بين رزمة أسفار برائحة غريبة، يبيعونها لأناس مثقفين أو مدمنين  لا أدري..! يدفعون الدراهم، ثم ينصرفون مستبشرين كأنما أتاهم منادٍ من السماء ببشرى خير لا ضنك بعدهَا، غريب أمرهم لعمري! لا أدري.

1xbet casino siteleri bahis siteleri