حقيقة محجوبة

يبقى الغد شيئا غامضا على الدوام، تعتوره حجب كثيفة تمنع النفاذ إلى حقيقته، إلا عن طريق التكهّن والرجم بالغيب، ثم توسّلا بتوقعات قد تصيب أحياناً وقد تخيب في أحايين كثيرة، ومن هنا تبقى أحداثه مجهولة حتى وإن كان الافتراض مدعوما بشواهد كثيرة تقضي بتحقّق شيء واحد، لكن القطع فيه باليقين أمر عبثي مردود، تقرّه التجارب وتعضّده المشاهدة المتكررة.
وتسليمنا بهذه الحقيقة البديهية لا يمنع أن نأمل خيرا فيما هو قادم، وقياس الحاضر على المستقبل يبقى مرهونا بتطور الأحداث، لذلك يلزم من المتطلّع لغد أجمل، أن يُفرغ وسعه في تحقيق ما يصبو إليه، عن طريق رسم خطّة واضحة المعالم، جليّة الملامح، يسير عليها بخطى ثابتة، لا يقطعه دونها صارف ولا يشتّته عنها طارئ.
ثم إننا إذا أمعنا الفكر في الغد، وجدناه ينقسم إلى غد قريب وإلى غد بعيد! فأما الغد القريب، فسرعان ما يستحيل حاضرا، ثم يدفعنا عنوة لغيره، فيفقد مزيّته ويُسحب عليه حكم الماضي الذاهب المنسلخ من أعمارنا الفانية، ليدرج في أكفان الذكرى التي تستمد قوتها من أحداث حقِيقَةٍ بأن تُروى، أو مملّة سبيلها لأن تُقبر فتطوى. وأما الغد البعيد، فهو المستقبل الذي نتطلّع إليه تطلّعا حالما مثاليا لا يخلو من أمنيات سعيدة تستحثنا لاستفراغ الجهد وبذل الوسع في سبيل تحقيق ما ارتجيناه.. فمن رام تشييد صرح عالٍ يناطح السحاب لا بد له في البداية من تعهد أساسه بالعناية المطلوبة، وإن الذي طلب غِلّة وافرةً وثمارا يانعة، كان حتما عليه أن يوفّر شروط النماء لإنتاجه، وألا يدّخر وسعا في العناية به من لحظة بذره إلى أن يتمّ تمامه.. فالأمنية إن أعوزها التطبيق والأمل إن لم يعضّده العمل الدؤوب كانت عاقبة أمر صاحبهما خسرا، وكان صنيعه كمن شيّد بنايات من رمل، ما لبث اليمُّ أن أتى عليها فهدّمها أو الريح فأزالها.. وأنى لمن تمنى أن يبلغ منزلة من تعنّى!
لذلك كان لزاما على طالب المجد أن لا يستنيم للخمول وألا يستكين للدّعة. فالعمر قصير والزّمن شرِه؛ يأكل من أعمارنا بقدر ما نغفل عنه، ولا سبيل لإعادة ما فات إلّا بمضاعفة الجهد فيما هو آت، واستثمار القادم على الوجه اللائق، الذي يعود على صاحبه بنتائج مُرضية تُنيله خِبرة لا بأس بها ليختصر الطريق نحو القمة، ويقطع أشواطا طويلة في وقت وجيز، على نحو يَبُزّ فيه أقرانه ويسبق أنداده بما أكسبته الممارسة من خبرات ومنحته المواكبة من مهارات.
ثم لا بد لمن رام بلوغ القصد في ظل هذا السّفر المضني والمفاوز المتراحبة أن يستصحب معه فكرة تعرضه للعراقيل ومسلّمة اصطدامه بالمطبّات التي قد تؤخره عن الوصول في الوقت المحدّد. ولا جرم أن هذه التوقعات ستمدّه بعزيمة ماضية على تتمّة المسير، وستجعله مخوَّلا لأن يمتصّ الصدمات التي قد تعرض له، لكونه مسبوق بتوقّها على كل حال. في حين لو أنه رفع سقف تطلعاته لمستوى المثلات، فإن الواقع ما يلبث أن يجبهه بحقائقه المريرة، فيخيّب أمله في أول تحد يقع فيه؛ لتتضخّم عنده فكرة تقضي بصعوبة ما هو مقدم عليه، فينتهي أخيرا إلى الرضوخ والاستسلام، ويرضى لنفسه بأن يعود بخفي حنين!
لكن ماذا لو كان حكم الغد مقرّرا سلفا، وكان من نتائج هذه المعرفة، استيقان صاحبها بانعدام المستقبل، لاستشعاره بنهايته الوشيكة التي تقضي بإعدامه، بسبب جرم اجترحته يده الآثمة.. كيف سيتطلّع هذا الشخص المتوجّس للغد، وبأي مزان سيزن به ما بقي له من وقت، وأي شيء سيقع في روعه في لحظة الفزع الأكبر، بعد أن توضع الأنشوطة في عنقه، وأي شيء سيقرع ذهنه بعد أن يُدفع الكرسي من تحت قدميه؟
إن الغد لأكثر الناس يحفل بالكثير من المفاجآت، لكنه لهذا الشخص نوع مضن من أنواع التعذيب النفسي الذي يستنزف رصيده الزهيد من الحياة على نحو رهيب، فتمديد وقت الإجهاز عليه لا يزيده إلا سَقما، والإفساح له في الأجل لا يدّخر له إلا آلاما، يُسقاها على جرعات، قبل أن يكرع كأس المنون جملة واحدة، كما صوّر لنا ذلك كله فيكتور هوجو في روايته مذكرات محكوم بالإعدام.
لكل يبقى الغد شيئا غامضا على الدوام، وتبقى توقعات أحداثه موكّلة بمنزلة أصحابها ومكانتهم وواقعهم المعيش ومستوى تفكيرهم ومبلغ علمهم، وليس يدري أحد منا ما سيحمله لنا الغد في طيّاته من بشريات ومفاجآت، وكل من يدّعي غير ذلك ما يلبث الغد أن يكشف فِريته ويوقف الناس على زيف مزاعمه، والمنجّم في النهاية كاذب وإن صدق.
1xbet casino siteleri bahis siteleri