من روايتي “عبرة”

ثلاثون عاما مرت كلمح البرق في السماء بل هي كدقيقة سرقت من الزمن العابر، دقيقة طوت في ثوانيها ثواني الحياة بكل لذاتها، وخزاتها، مسراتها وأحزانها. ففيها انطوى عالمي الداخلي، ثوان مرت وكأنها الدهر بأكمله أو أكثر بكثير، ثوان مرت دون أن أدرك أنها قد كانت أصلا وذاك مما منعت نفسي عن النظر إليه في عالمي الخارجي.

لن ألوم الحياة كما يلومها العامين من الناس، فما تعلمته في هذه الثواني أن الحياة منطقية ومحايدة وما نسب إليها من عدل أو ظلم، صلاح أو فساد إنما هي طبائع بشرية وصفات من صفات بني البشر. أما الحياة فليست عادلة ولا ظالمة، ولا صالحة ولا فاسدة وإنما هي كالأرض التي ترحب بكل البذور فإذا كانت البذرة نتنة فكيف لها بالنمو المستقيم فيها أو بالأحرى كيف للأرض أن توصف بالنتانة؟ فالمهم هو أن نعرف هل بذورنا التي هي سرائرنا خبيثة أم صالحة.

في كل يوم تأوي إلى سريرها تتقلب ذات اليومين وذات الشمال طالبة من السهاد الافتراق عنها ولو للحظة لعلها تسرق في غيابه ولو مرة ارتداد طرف العين إليها، فجفونها لا ترتد وكأنها لا تنتمي إليها من كثرة التساؤلات التي تحوم عليها. فدائما ما يكون ليلها أشد عذابا من نهارها ففيه تأوي إلى جحرها المنعزل المنفرد حيث لا أحد يشفي غليل الأسئلة التي أضرمت نارها منذ أن بدأت التفكير في باطنها وظاهرها. فيبقى السهاد سيدها وحارسها الليلي الذي لا مناص لها منه، فمهما تزينت ونادت تتغزل من لا يُرفض غزله، ومعانقة من لا ظلمة أحلك منه، إلا ويتلاشى الصوت في جوفها قبل أن تنطق به، فكل ما تريد البوح به يسكن بداخلها لا مكان له بين الناطقين.

كيف للثلاثين عاما أن تمر أمامي الآن في لحظة؟ كيف بكل تلك التفاصيل أن تتولد (تتجلى) في دقيقة؟ كيف لكل تلك الأحاسيس أن تُشعر في ثانية؟ كيف وزمن اليوم ليس كذي قبل، كيف وزمن الآن لا بركة فيه تذكر أو تضاهى بزمن القبل؟ رباه، كيف لكل تلك الأفراح والآلام، لكل تلك العثرات والعبرات، لكل ذلك الانتظار أن يكون مجرد ثانية؟ كيف؟ مرت الثلاثون عاما دون أن أعلم أن العمر يطوى كما تطوى الأشياء إلى الفناء، وأن صرخة الميلاد ما هي إلا ناقوس دق ليعلن أن العمر ينقضي
ويتدحرج نحو حفرة القبر، وما فرحة الميلاد إلا طبق سلطة يقدم قبل مائدة الموت.

نوهم أنفسنا بأننا صالحون ومصلحون وتلك هي لحظة الغفلة. فما نلبث على ذاك الحال فترة حتى تُكشف لنا سرائرنا وفجأة نوقن أننا مخدوعون وتلك هي لحظة النور واليقظة الخاطفة التي تنجلي بالسرعة ذاتها التي حلت بها، فنعود للغفلة التي نمكث فيها منذ نعومة أظافرنا من جديد.

ذات ليلة سرى في نفسي هذا السؤال “من أنا ومن أين أتيت؟” حائرة أشتكي الجهل كما اشتكاه أبو ماضي ” جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت”. لن أقول كافحت ولا ثابرت ولا أجهدت نفسي في تقصي إجابة للسؤال المسؤول ولكن حملت نفسي ما وسع لها فانتهيت إلى أن “معرفة المقام في الإقامة على الأرض” هي الإجابة على “من أنا” وأن “من أين” تبتدأ وتنتهي من الله إلى الله. هذه الإجابة البسيطة ما هي إلا بداية الطريق أو منتصفه والأجر يكون على قدر المشقة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri