في انتظار الرحلة القادمة

على متن طائرة، كان يوجد 50 مقعدا، دق جرس الساعة التاسعة صباحا فظلت عشر دقائق فقط على إقلاع الطائرة بيد أن عدد الركاب ضئيل جدا، انتظر الطيار إلى أن نفذ صبره ثم أخبر الركاب بأنه سيقلع حالا وسيتم الرحلة، كأن شيئا لم يتغير، ستكون رحلة شأنها شأن باقي الرحلات لعل في هذا سر ومتعة للاستكشاف. لا منادي ينادي من الديار فلا مانع للإقلاع إذا!

سأل صاحب المقعد الأول امرأة في ريعان شبابها أين باقي الركاب؟ فأجابته بلغة أخرى: “انتظرت مطولا أن يرمقني شخص مألوف أو غريب ويسألني عن حالي كي أعترف أني لست بخير كما ييدو، أن يضيء عتمتي أو على الأقل يكثرث لأمري”؛ تعجب الرجل من جوابها، وجدها تحدثت أكثر مما كان يحمله السؤال وبلغة مغايرة فرد عليها بنظرة غريبة تلتها ابتسامة صفراء ظنا منه أنها مجنونة تنتظر فقط من يبديها اهتماما أو يبادرها حديثا فأينعت وقهقهت ثم قالت بسخافة أنا بخير كما هو الحال دائما.

في الخلف أي المقعد الخامس والسادس، كان هناك زوج، رجل يغازلها زوجته ذات الشعر الحريري؛ لقد كان أسيرا لسحر مقلتيها، لم يكف قط عن التمعن فيهما وما إن ينطق بكلمة حتى يذوب ويتهجى عاجزا أمام ما تراه بصيرته ينهيها بقبلة في جبينها فتستحيي هي وتحمر وجنتاها وكأنها لؤلؤ محبور ثغره مكنون الشوق من مكنونه. لقد كانت صورة سعادتهما تحلق بين نجوم السماء ساطعة وجلية لكل ناظر كأنهما أزالا آثار الجروح والدنس الحزين ثم أضاءا سويا كل انطفاء وحلقا بعيدا عن عالمنا وانعزلا عن الباقي.. نعم يا سادة، اكتفيا ببعضهما فهنيئا لهما.

وفي مقابلهما، كانت توجد فتاة بمجرد التحديق إليها ستعي أنها ضحية للخيانة، بحيث إنها ومنذ ركوبها لم تزل عينيها ولو للحظة عن الزوج؛ بيد أن نظراتها لم تكن سليمة أبدا، بل كانت تهيمن عليها مشاعر فياضة كلها أسى، ضعف وتشتيت. وضاح أنها وضبت حقيبتها وتركت مدينتها وشجنها محاولة جاهدا لملمة جروحها الغائرة في حين أن ابتعادها كل تلك الأميال لم يكن صائبا كفاية فلقد تغلب عليها لهيفها فور المشهد الأول فأجهشت بالبكاء فبالرغم من أنها أخفت أعينها بالنظارة الشمسية إلا أن نحيبها كان يعلو بين الفينة والأخرى، جلي أنها الخاسرة من الحرب والأمر لم يكن يستحق قط كل عنائها فمن بكائها وصوت نفسها باد أنه كان طريقا طويلا في موسم خريف سقطت معه جل أوراقها وسعت من خلاله في خراب روحها حمدا لله أنه لا زالت تمتلك بعض الأوراق ومرجح أن تكون لها ملاذا ويد عون تنقذها أو ورقة جوكر تربحها حربها.

في المقعد رقم 10، يجلس مراهق كل همه جيتاره البني لا يكترث بتة لمن حوله؛ احتلت متعته الشخصية رأس قائمة أولوياته، لا زلت أستحضر ملامحه وحروفه التي كانت تشع شغفا. بناء على ما كان يبدو عليه بين أنه يلف الأرض طولا وعرضا تنقيبا عن موطن يشعر فيه بالانتماء والطمأنينة كي يبوح بكلماته ويلحن أغانيه. كان يمتلك ابتسامة تشفي علة المريض وتزيل بأس الكئيب؛ صفوة روحه وطيبة قلبه قاطبة صفاته تجعلك وبدون سابق إنذار مشروح القلب متمنيا له مستقبلا زاهرا نظيفا مشابها لعفويته الطفولية بل والأهم مكانا مطمئنا لا تعتليه مقدار ذرة شك.

مقالات مرتبطة

في المقعد 25، رجل خط المشيب مرتسم فوق هامته يفتح النافذة كل 3 أو 4 دقائق كأنه يختنق من عاصفة أفكاره، زخت زوبعة الاستقرار لديه فتكت ما يحوزه ثم ذبل معها ربيع أيامه حتى أضحى مكبلا مقيدا بإحكام لوسوسة أفكاره وصار دماغه مساحة ضيقة لتوسيع وحشو ما يجول بخاطره، فغدا باحثا عن مفر له كتلك النافذة التي من خلالها يستنشق نسيم الحرية وما هي إلا دقائق كي يعود من جديد إلى ملحمته. صدقا راقني ذاك القناع الذي كان يرتديه لقيته في منتهى الدهاء والنباهة، قناع لمغترب عاد بعد رحيق سنين مضت محنا إلى وطنه كطائر يحن لوكره، إلى مسقطه عائد وفمه لطعم الفرح متلذذا. بهجته كانت تتلاوح في الأفق كبهجة طفل صغير بعد رؤية حذاء أبيه المسافر لأيام وشهور. صورة رسمها لتفتن الركاب يستنجد بهم لعلهم يعينوه على غربته جوف أفكاره.

في المقعد 33، امرأة تخط في مذكرتها وما إن تكمل بضعة أسطر حتى تزيل الصفحة من جدورها وترميها من نافذة صاحب المقعد، كانت تتردد مليا؛ كلما تحمل القلم كي تخط تبدأ أناملها بالاهتزاز وكأنها تخشى البوح. تردد كان كفيلا بقتل عواطفها وأحاسيسها، مزقت آخرة ورقة من المذكرة ثم ضوعت يدها على ذقنها وسرحت تتأمل، انتابني حينها احساس بأن أعماقها لم تشفى بعد يا ليتها ركضت خلف حدسي فالحدس لا يأتي من العدم لا أدري لماذا لم أستطع التغاضي عن استسلامها. لقد كان مبكرا جدا على رفع راية الاستسلام واعلان هزيمتها فالرقصة الأخيرة لا تنتهي بعد ما زالت الموسيقى قائمة وهي بدورها لم تصمد كفاية كي تقر إن كان فعلا أمرا يستحق المجازفة أم لا وإن تساءلتم عن عدد الصفحات فكلها ستة أو سبعة أي ست أو سبع محاولات، عدد ضئيل جدا أمام الاقرار بالاستسلام غير أنه لا رقم ولاشيء يعلو عن عزة المراوغة أثناء كفاحك ضد الانسحاب. لم تحدثني قط عن شرف المقاومة كل ما فعلته هو أنها لانت أمام راحة الاستسلام.

أما في المقعد الأخير، كانت تجلس امرأة عجوز وحيدة تكتسي من اللامبالاة وشاحا كرحمة على كيان دفن مظلوما في حين أنه من الذنب معتريا، كانت متكئة على عكازها وثقل أثقال الدنيا عليها أسمى من ثقل جسدها عليه؛ تستمر بالنظر يمينا وشمالا كأنها تفتش عن شيء ضاع منها ثم تعود من جديد إلى عكازها وتفشي له ما يجري بخاطرها بهمس. بالرغم من همسها إلا أن ألم روحها وتآكل فؤادها كان واضحا ثم لا زالت تقاوم بغية البقاء على قيد الحياة.

لم يبد أي اهتمام صاحب المقعد للأول للشابة لأنه أساسا هي بهلاء انتظرت طويلا السؤال في حين أنه افتقد قيمه مع مرور الزمن، أما عن الزوج والفتاة المقابلة لهما فالحب حرب إن استهليتها لا ولن تعود منها كما ولجت رابحا كنت أم منهزما. صاحب الجيتارة فقهنا من خلاله أنه أنت الوحيد القادر على تعمير سعادتك وإن أصبت الهدف ارتسم ذاك على وجهك وتصرفاتك، في حين أن صاحب المقعد 25 لم يعمر فاخرا فالحياة ملية بالحفر والانعراجات عاد جدا الاصطدام بها ولكن الأهم هو النهوض بعد السقوط والتحرر من مكبلات الدنيا أما عن صاحبة المقعد 33 فلم تكن تدر قط أنه ياما أناس ناموا نوما عميقا على مذبح القرار وياما آخرون استلذوا طعمه وتعاندوا حتى بلغوا مناهم وأخيرا وليس آخرا فطنت العجوز متأخرة أن سندها كان هو صحتها التي آكلها الدهر وهي تركض خلف تفاهات.

أترك لكم كامل التخمين في مقعدي، ولكنني أؤيد وبشدة ما صرح به الطيار في مستهل الرحلة كانت فعلا مليئة بالأسرار زاحت عنا هموم ومتاعب تآكلت منا وأثني عليه بحرارة، ممتنة وبشدة لأنه لم يتراجع عن قراره فالطائرة لا تكشف عن نفسها إلا لمن يرتفع، رحلتي انتهت هنا آمل أنكم أدركتم بعضا من الرسائل وان اشتدت العاصفة لا تنسوا أن الطائرة تعاكس الرياح في طريقها إلى التحليق فتغييرك للمسار عند التعتر والضنى اقتراح منقاد ومرجح.

أحيانا نتوه عن الطريق وأحيانا أخرى نتعثر، نادرا ما يكون الاستثناء وهذا لأننا نتخبط من العجز في متاهة الحياة الدنيا، غابة مظلمة حيث ضاع المسلك والمنهج. وكل ما بين لديك هو تلك العلبة التي تعمر بأمنيات، يفوع الورى لتفاجئك يوما ما ببلوغ المنية وتسقيك بكأس الموت كي تنقش رحلتك على شاهدك. أجل يا سادة، نقبل لهته الحياة على موعد وتزهق المنية على موعد كذلك والمرء بينهما تائه ينقب عن بوصلته.