ليس من يبكي بدم قلبه كمن يبكي بدمع مقلتيه!

تشير عقارب الساعة إلى العاشرة مساء، إنه الموعد الذي قرر فيه العدو مجددا أن يسرق الحياة ممن سرق أرضهم من قبل. انطلقت صافرات الإنذار (أو بالأحرى صافرات الموت ) وهي تقول: أيها الناس الموت يلاحقكم ففروا إلى حيث الحياة.

الموت يلاحقنا فهذه حقيقة أما أن نفر منه فهذا وهم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ }، فضد الحياة قد سبقنا إلى خط النهاية ينتظر وصولنا لكي يهنئنا بعناق ينتهي برمي التراب فوقنا، فمهما طالت المسافة فالموت واقع والفراق حاصل، فقط تختلف صور رحيلنا بين من يستقبل القبلة وهو تائب، وبين من يستقبل عكسها فيحني رقبته إلى إله الدنيا، وبين هذا وذاك ينتصر من فاضت روحه وقد ظفر بالشهادة.

انطلقت تلك الصافرات لينطلق معها وابل من المتفجرات يبدو أنها فقدت صوابها فأصبحت تسير يمنة ويسرة بلا هدى ولا صراط مستقيم، لأول مرة أجد من ينتصر للنسوية فيحقق مطالبها، ذلك أن صواريخ الاحتلال لم تفرق بين جسد ذكر ولا أنثى فأسقطتهما معا ، ولم تميز بين روح صبي ولا صبية فساوت في طريقة التهامهما، في تلك اللحظة بالذات انتصب الخوف فرأيته جسدا يمشي بل يفر ويجري، وأصبح عينا تبكي، ولسانا يشكي ، ويدا تستنجد، وقلبا ينبض… لقد أصبح الهلع كالإنسان بل الأصح أضحى إنسانا بإسقاط كاف التشبيه.

في مثل هذا المشهد الذي هو لغير أهل غزة حدث تضيق لرؤيته القلوب، وترتعد لبشاعته النفوس، وتسيل من هوله الدموع فتصبح بحارا لا ساحل لها، وجدت أهل الضائقة قلوبهم كالصخر ، وأرواحهم تموت لكي تحيا، أما دموعهم فكانت دماءهم .
اختلفت ردة فعلهم قبل القصف وبعده إلا أنهم اجتمعوا على الثبات وابتلاع الصدمات وإظهار للعدو أن الحياة جهاد والموت شهادة. فتعجبت نفسي من لسانهم الذي يلهث بالحمد ومن وجههم الذي احتفظ بالابتسامة رغم أن حالهم أدعى للسخط وعدم الرضى.

فقبل القصف رأيت بني آدم وهم يستعدون لارتداء الكفن، كانوا فعلا على حافة الموت فمن العائلات من آثرت البقاء في منزلها الذي أصابه نصف الشلل فلم يبق منه شيئا صالحا إلا جزء موعد انهياره قريب لا محالة، خاصة العم محمود الذي كان يردد دائما: جدران بيتي قبري ولن أهرب كالجبان خوفا من رصاص الاحتلال . أما النساء اللواتي فجأة أصبحن رجالا لجشاعتهن وصلابة إرادتهن فقد التزمن لباسهن الشرعي ولسان حالهم لم يخل من ذكر حتى إذا ما عادت أرواحهن إلى بارئها كن ساترات لعورتهن، وكأنهن يقلن أيها الاحتلال البليد حياؤنا ملكنا وعفتنا جمالنا فمهما كدتم لن نبدي من زينتنا إلا ما ظهر منها. أما الأطفال فلا طفولة لهم فجرة القلم حكمت عليهم بالانتقال من سن الربيع إلى سن الخريف منذ صرختهم الأولى، ومن العجب أن رضيع غزة يقاوم ومقاومته شهادته، أما إذا كتبت له الحياة فصغير غزة يرضع من حليب أمه حب الأرض، وبدل أن تمد إليه العصا ليلاحق بها أقرانه، تعطى إليه الحجارة ليأخذ دروسه الأولى في كيفية دك العدو. أطفال غزة يعيشون أحلام غيرهم في جغرافية أخرى واقعا ذلك أن طقوس لعبهم تغيرت، فلم يتقمسوا دور العريس وزوجه وهم في أهم أيام حياتهم، بل رفعوا أحدا بينهم فجعلوه فوق أكتافهم شهيدا وهم يكبرون. صدق من قال أن القسمة غير عادلة وأصدق من قال أن الصغار خيال لمن يكبرهم سنا يتبعونهم في حركاتهم وسكناتهم وفي وفائهم كما في خذلانهم.

انتهى القصف فعم الغبار أرجاء المكان وكاد أن ينقطع الرجاء، انقلبت الموازين فالأصل أن يكون الإنسان فوق البناء أما الآن فالبناء فوق الإنسان، كم من قصة جميلة انتهت فصولها ورفعت ذكرياتها بسقوط منازل شيدت لأول مرة دخول المتحابين فشهدت أيام فرحهم كما سجلت أيام قرحهم، وكم من طفل مات تحت أنقاضها فأخذ معه البهجة التي خلفها خروجه من العدم. انتشرت فرق الإسعاف كل يجود بما ليس لديه، فخناق الاحتلال لم يترك لهم حتى الأدوات البدائية التي تستعمل في الإسعافات الأولية. اختلفت تعابير الخلق بين من تلمس جسده فوجده حيا، فزادت فرحته لما رأى أقرب الناس إلى فؤاده ما زال يتنفس الهواء. وبين من جن جنونه وهو يحمل أشلاء من كان بالأمس يرقد إلى جانبه.

من بين كل هذا لفت انتباهي رجل ذو لحية طويلة وكثيفة لو رأيته في غير هذا الموضع لقلت عنه أنه رجل لا يفقه في معنى الحب شيئا ، ولرجمته بلفظ الفظ الغليض القلب. أبصرته يحمل بين يديه الرحيمتين ملاكا لا يتحرك فهمت من عدم حركته أن روحه عبرت حدود الأرض وحلقت متجاوزة حدود السماء إلى حيث ينعدم الشر ويسود الخير، لكن الغريب أن تصرفات الرجل لم توح بأنه يحمل فلذة كبده وهي هامدة بين يديه، فتساءلت أي رجل هذا الذي لا ينهار فيسقط ويبكي ويلطم وجهه كالأنثى لما يرى جزءا منه قد فارقه؟ كيف استطاع أن يبقى ثابتا واقفا وخياله يردد أحداث أن ابنته تلقت ضربة أفقدتها حياتها وبدرجة أولى حياته؟ فلم أخرج بنتيجة إلا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وأن الله سيجزي الصابرين.

والحقيقة أنها لم تمت بل كانت حية في وجدانه ونحن نرى موتها أما هو فيرى نومها لذلك كان يقبل عينيها، كما أنه لم يبق حيا فقد ماتت روحه ولم أبصر سوى جثته.

1xbet casino siteleri bahis siteleri