ثرثرة على ضفاف السين مع عذراء أورليان
يتكرر كل صباح مشهد المدينةعلى تل سانت كاترين “Colline sainte-catherine” البانورامي الذي تداعبه أولى نسمات الصباح، روان تستيقظ. يستقبلها بداية بائعوا السوق الأسبوعي “Le vieux marché” فتعلو أصواتهم بحماس ثم تلاميذ المدرسة وأخيرا الموظفون. وتعلو أصوات المواصلات “محطة جان دارك”. يصل الميترو بعد 5 دقائق، فيستعد الراكبون وهم يرفعون معاصمهم من حين لآخر لكي لا يتأخروا عن عملهم. أما على الضفة الأخرى من نهر السين وأمام أقدم كاتدرال بالمدينة يجتمع السياح في انتظار القطار السياحي أو المرشد الذي يأخذهم في جولة عبر الزمن والمكان.
هناك كنت مع صديقتي بينهم فوصلت مرشدتنا، كان إسمها آنا شابة في مثل عمرنا تعمل كمتطوعة في مركز السياحة “office de tourisme” بمدينتها الأم .التقيتها على موقع “فري تاور Free Tour” أخذتني وصديقتي معها حول المدينة بعد تعارف سريع ثم أطلقنا العنان لأرجلنا. كانت تستوقفنا عند كل مأثر لتخبرنا أن تلك البثور على الحائط ليست بفعل البناء العشوائي أو أن المسؤولين متغاضون عنها، لكنها كانت تحتفظ فعلا بالهوية التاريخية للمدينة والتي تعود بنا إلى القرن الماضي حيث دمرت المدينة بأكملها سنة 1944 خلال الحرب ضد جارتها بريطانيا اللتان لا يفصل بينهما إلا بحيرة المانش. فتماما مثل ما حدث في هيروشيما وناكازاكي، تم إلقاء 25 قنبلة حولت المدينة إلى خراب فسمي ذلك الأسبوع ب”الأسبوع الأحمر” حيث استهدفوا كل المواقع الاستراتيجية كالجسور والكنائس مما حوّل المدينة إلى أطلال باستعمال ما يسمى “سياسة الأرض المحروقة “:
“la politique de la terre brulée”
أي إحراق أي شيء قد يستفيد منه العدو كالمحاصيل الفلاحية والمنتوجات الغذائية وتدمير الهياكل الأساسية مثل المأوى والنقل والاتصالات والموارد الصناعية وبذلك يتم قطع كل شرايين الحياة في المدينة.
قطع حديثها وصولنا لضفة “نهر السين” كانت مياهه تجري بهدوء حاملة باخرات وفنادق سياحية جاعلة من المشهد صورة فوتوغرافية جذابة. لكن ما لن تتمكن من حمله هذه الصورة، هو رماد جان دارك العذراء الذي ألقي فيه بعد إعدام هذه القديسة بالحرق و هي في سن 19 خلال حرب المئة عام بين القرنين 14 و 15 التي كانت بين فرنسا وانجلترا بقيادة الملك البريطاني هنري الرابع. كانت “عذراء أورليان” ابنة فلاح بسيط وهي تعد الآن من الشخصيات البارزة في التاريخ الفرنسي حيث زعمت أن أتاها إلهام إلهي يأمرها في سن 12 بإجلاء الإنجليز من البلاد. فتزعمت الطفلة قيادة الجيش الفرنسي في حرب المئة عام، وأدت إلى عدة انتصارات ثم توفيت في سن لا يتجاوز العشرين.
عن هذه البطلة قال المؤرخون أنه إذا كان شيء ما قادر على إحباطها فحالة فرنسا في تلك الحقبة كانت كفيلة بذلك. لكنها ورغم أنوف المتشائمين دعمت الملك شارل السابع بعد توقيع معاهدة تروا من طرف زوجة شارل السادس الملقب “بالملك المجنون” سنة 1420 التي، وعكس ما انتظره منها الشعب الفرنسي، منحت حق الخلافة لهنري الخامس بدلا من ابنها. فادّعوا أن السبب وراء ذلك له علاقة بعلاقة غرامية سرية كادت تحطم دولة بأكملها.
أصبحت بعد ذلك جون دارك مصدر الأمل الوحيد لنظام كان على وشك الانهيار. فبعد سنوات من الهزائم المذلّة والمتتالية، أصيبت فرنسا بالإحباط فوضع شارل جان على رأس الجيش بعد أن رأى أن كل حل عقلاني قد حُكم عليه بالفشل. ولم يكن لجيش أن يلتفت إلى فتاة فلاحة أميّة تزعم بأن صوتا من الله يرشدها لقيادة الجيش إلا إن كان هذا الجيش قد وصل إلى أعلى درجات اليأس. فرفعت الحصار عن مدينة أورليان التي كانت آخر ما تبقى من فرنسا التي أصبح مصيرها معلقا أساسا حول هذه المدينة.
بعد نهاية الجولة السياحية. عرضنا على صديقتنا الجديدة آنا مرافقتنا للغذاء تعبيرا منا عن شكرها بعد أن رفضت مقابلا ماديا إلا أنها أبت لكون ما تفعله ليس بحثا عن لقمة العيش لكن حبا وتقديرا لمدينتها الأم.
استطاعت مدينة روان استجماع قواها في ظرف نصف قرن لتتحول من أطلال وركام إلى مدينة جديدة وسياحية وخصوصا مفخرة لسكانها. فبعد أن يغطي الليل بوشاحه المدينة يقام أسبوعيا في نفس الساحة السياحية على جدار الكنيسة استعراض سينمائي يسمى “كنيسة الأضواء Cathédrale des lumières” يعكسون فيها تاريخ المدينة وأبرز الشخصيات التي جعلت منها ما هي عليه اليوم. فيجتمع الناس الأصليون منهم والسياح في ارتقاب الاستعراض الليلي ويعلو ضجيج محادثاتهم الثنائية إلى أن يبدأ الاستعراض فيطبق الصمت على الساحة ويترك المجال لأحداث التاريخ ليُثَبّتوا ذلك في ذاكرة المواطنين كما السياح فتظهر جان دارك فوق فرسها وهي تقاتل وينتهي الاستعراض بصور دائرية لأهم الشخصيات البارزة لمدينة روان تصعد إلى السماء تعبيرا عن اعترافهم بجميلهم وإهدائهم نوعا من الخلود. فينتهي الاستعراض وتنطفىء الأضواء ليعود المشاهدون إلى منازلهم مشدوهين بعبق التاريخ، فتنام روان.
كان سفري لمدينة روان في أول مرة أغادر فيها التراب المغربي. وقد علمتني هذه المدينة العديد من العبر والدروس. مما جعلني أرشحها لكل محب للأدب والبساطة والتاريخ. فمن رحِم هذه المدينة نشأ الكاتب العظيم غوستاف فلوبير كاتب الرواية الشهيرة “Madame bovary” الذي لطالما تغنى بحبه لمدينته التي تزداد جمالا ورونقا مع توالي السنين إلى أن أصبحت الوجهة السياحية الرابعة عالميا في سنة 2019. لا شك أن مركزها الثقافي Moulin d’andé (مخبأ الطفلة جون دارك سابقا) ساهم بصفة جد مهمة في احتلالها هذا الترتيب إذ أصبحت قبلة وملاذا للكتاب و الفنانين من مختلف الدول موفرة فضاء للخلوة والتركيز بعيدا عن صخب المدن الكبرى وتلوثها الضجيجي.
و أخيرا صدق الإمام الشافعي حين قال: “تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى…وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ: تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ، وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد”.