البلاغة الإيمائية في الشريط المصور فيلم 11 سبتمبر 2001

941
يتناول هذا المقال، دراسة تحليلية لفيلم 11 سبتمبر 2001 لمخرجه شون بين، (https://youtu.be/zNgKoUWOBQo) ويدخل هذا الفيلم تحت لواء الأعمال السينمائية الرمزية، التي تحتفي أكثر بالإشارة. يأتي اختيارنا لهذا الفيلم كونه تجل من تجليات ما اصطلح عليه كلود بريمون بالبلاغة الإيمائية للشريط المصور. ففلم 11 سبتمبر 2001 هو فيلم مدته إحدى عشر دقيقة، وتسع ثوان وصورة. ويعتبر من أرقى ما أنتجته السينما الرمزية.
تجري أحداث الفيلم في موضوعها المباشر (المؤول المباشر) على صورة رجل يعيش لوحده في منزله بعد أن أخذ الموت زوجته، وبعد ذهاب ابنه الضابط إلى الجيش الأمريكي؛ يعيش حياة روتينية ما بين الاستهلاك (الطعام ، الخمر، اللباس والنوم) يسقط البرجان فيدخل الضوء إلى منزله ويعيد الحياة إلى أزهاره، يفرح بذلك الضوء ويهرع لزوجته ليخبرها بالأمر، يتذكر أنها ماتت فيدخل في نوبة بكاء. أما المؤولات الدينامية فيمكن جردها بتقطيع الشريط المصور وتجزيئه إلى مقاطع من حيث الصوت والصورة. ويمكن التركيز على صوت المنبه كصوت هيمن على مجرى الفيلم ككل.
حضر في بداية الفيلم بشكل منتظم صوت المنبه يقابله صوت شخير الرجل (بطل الفلم)، ليغيب هذا الصوت مع اقتراب نهاية الفيلم بعد تعطل المنبه. غياب صوت المنبه وحضوره حمل من الرمزية ما حمل، حيث يمكن اعتبار المنبه: صوت إنذار، إشعار باقتراب خطر، الغفلة… أما غيابه بعد الحضور، فيحيل إلى تحقق التنبيه، أو لا جدوى من فعل التنبيه، لذلك لاذ المنبه بالتعطل تاركا أحداث القصة تنمو. أما صورة المنبه فبالإضافة إلى المعنى المباشر الذي تحققه وهي الإيقاظ والتنبيه، فإن المخرج ضمنها بعدا سياسيا آخر حيث توسط العقرب المشير إلى الثامنة تماما حرفا ben وb وهذين الرمزين هما اختصار لعلمين بارزين في تاريخ الصراعات التي عرفها العالم وهما بوش جورج رئيس البيت الأبيض بأمريكا، وأسامة بلادن رئيس تنظيم القاعدة.
من بين الأصوات التي تكررت في الفيلم وهو صوت نقط الماء التي تسقط بشكل متكرر وروتيني من الصنبور، يحمل هذا الصوت تأويلين اثنين: صوت الماء في ارتباطه بالحياة، وصوت الماء المتساقط بانتظام في إحالته على الروتين والنمطية التي وسمت حياة الشخصية البطلة، وإذا ما ذهبنا في منحى تفكيكي نقول إن الماء يحيل إلى الموت، هذا إلى جانب صوت نوبات الضحك والبكاء التي انتابت الشخصية البطلة، والتي منحت الفيلم بعدا تقابليا من حيث المعنى لم تبدُ معه وجهة نظر المخرج في حادثة سقوط البرجين، ما بين الضحك والبكاء لا نعلم ما إن كان مؤيدا أو معارضا لما وقع.
ننتقل من الأصوات إلى الصور، مركزين على الوظيفة الإبلاغية التي أدتها هذه الوقائع: تكرر عادات من قبيل غسل الوجه، والأكل، والتسوق، والنوم، والحلاقة والتنظيف…يمكن مزج هذه الصور لنحصل على دلالة مفادها الاستهلاك والروتينية. فعل الاستهلاك هذا حضر أولا من خلال شفرات الحلاقة المتراكمة التي كان يستعملها الرجل في حلاقة ذقنه؛ فامتلاء حاوية النفايات المخصصة لشفرات الحلاقة يحيل على تكرار هذا الفعل، لكن المثير أنه في المرة الأخيرة تصيبه الشفرة بجرح خفيف في ذقنه. فما دلالة الشفرة كعلامة دالة في هذا السياق؟
تحيل الشفرة إلى معنيين اثنين؛ الأول النظافة والثاني الجرح والدم والنزيف وتتضافر هذه العلامة مع سيرورة المعنى العام. حيث إن سقوط البرجين أو بالأحرى اختطاف 4 طائرات وتدمير البرجين وأحد القواعد العسكرية التابعة لأمريكا هو جرح غائر وشفرة أصابت صاحبة أقوى نظام جوي وعسكري في الصميم؛ حيث نفذت العمليات بأجهزتها، فجل الطائرات التي تم اختطافها هي لأمريكا ومن مطاراتها، كذلك الشفرة هي وسيلة الإنسان التي يثق فيها مقربا إياها من جلده إلا أنها قد تجرحه في حين غفلة منه.
النافذة: لا تغدو النافذة مجرد ثقب في الجدار أو متنفس للضوء أو الهواء؛ بل تحمل هذه العلامة من المعاني الكثير، فالنوافذ على اختلاف أشكالها لها وظيفة أساسية ومشتركة، ألا وهي الربط بين فضاءين منفصلين، بين مشهد وآخر، بين ما هو خاص وما هو عام، بين الذات والآخرين، بين ضوء وآخر، وبين هواء وآخر… ولأن النوافذ الحاضرة دائما وأبداً من حولنا تنفتح على كل ما في الجهة الأخرى من حياة، وكان من الطبيعي أن تحضر في كل ما في الثقافات الإنسانية من فنون وآداب وسينما أيضا. وقد تكون مصدر خطر أحياناً.
علاقة حميمة تلك التي تربط اللصّ بالنافذة؛ فهو يستخدم النافذة معبراً لفعله المحرّم أو المتعدي على قواعد العقد الاجتماعي، فلربما يمكنه الدخول من الباب ليسرق، لكن النافذة تكمل المشهد-العملية، في الحقيقة وفي الأفلام وفي الأمثلة الشعبية المتناقلة على الألسن، إنها المدخل المحرم. وهي المخرج أيضاً للص، أو لغيره، فيقال “طرد من الباب فدخل من النافذة”، للدلالة على الأشخاص الذين لا يمكن التخلّص منهم، أو الذين يتلاعبون بما يعدون به أو يُطلب منهم.
ختم المخرج فلمه هذا بلقطة لنافذتين واحدة مغلقة والأخرى مفتوحة، وفي هذا إيماء لعلاقة أمريكا بباقي دول العالم؛ فالنافذة المغلقة موضوعة الستائر ترصد انغلاق أمريكا على نفسها. أما النافذة المفتوح نصفها فهي أيضا لا تتورع تربط بين الأنا والآخر. هذه العلاقة المضطربة، فالنافذة المفتوح نصفها هي منفذ وثغرة استطاع العدو (اللص، تنظيم القاعدة) التسلل منها.
وتأسيسا على ما سبق قام الفيلم على تقابلات ثنائية عدة لعل أبرزها ثنائية الظلام والضوء؛ حضرت من خلال أشرطة الضوء الصفراء الاصطناعي التي كانت تنير الغرفة قبل سقوط البرجين والنور الطبيعي الذي عم الغرفة بعد الحادث:
  • الموت والحياة؛ حضرت من خلال بداية الأزهار الميتة على شرفة النافذة / حياة الأزهار بعد اقتحام ضوء الشمس. ثم من خلال الرجل الحي الذي يعيش على ذكرى زوجته المتوفية. والماء الذي يحيل في إحدى دلالته على الحياة.
  • الحضور والغياب: غياب الضوء وحضوره، غياب الابن العسكري عن المنزل/حضوره من خلال الصورة.
  • الغفلة واليقظة: النوم/صوت المنبه، الماء.
  • الفرح والحزن: فرح الرجل باقتحام الضوء لبيته / حزنه لتذكره لموت زوجته وتحضر هنا كذلك ثنائية الضحك والبكاء.

يمكن الاستقرار بتأويل نهائي لسيرورة معاني العلامات الوارد ذكرها على أن البلاغة الايمائية حضرت لإيصال معان مكثفة ومختزلة حول نقطة مفصلية في تاريخ أمريكا، فالمخرج سلط الضوء من خلال فضاء ضيق الغرفة بضيقه استطاع توسيع التفاصيل.