خطر الصمت!

قال الشاعر والمربي الأمريكي Clint Smith في أحد لقاءات TED: “نقضي الكثير من الوقت في الاستماع لما يقوله الآخرون لدرجة أننا قلما نركز فيما لا يقولونه، الصمت من رواسب الخوف، هو الشعور بعيوبك تمزق وتقتلع لسانك، هو الهواء ينسحب من صدرك لأنه لا يشعر بالأمان في رئتيك، إنه محرق، إنه قيود، إنه ألم. لا يكفي الألم لاختيار معاركك حين تكون معاركك قد اختارتك في الأصل، لن أدع الصمت يلتف حول ترددي، لذا، هذا العام بدلا من التخلي عن شيء سأعيش كل يوم وكأن هناك ميكروفونا مدسوسا تحت لساني، مسرحا في أسفل كبتي، فمن يحتاج لمنبر حين يكون كل ما تحتاجه هو صوتك؟”

حين كنت أستمع للرجل يتحدث بدا ما ينطقه مألوفا، إنه يتحدث عني وعنا نحن معتنقي الصمت رهبانه ومريديه، إنه يعلم مثلك أن لسانك يتمزق ويقتلع حين ينتصر شعورك الجارف بعيوبك وبخوفك، واكتشفت فجأة أن ضد كلمة الصمت ليس دائما الكلام بل هو القدرة على التعبير، الصمت ليس دائما حكمة هو في أحيان كثيرة جبن، انسحاب خجول من الحياة والفعل.

لفهم خطورة الصمت

هناك قصة قصيرة شهيرة في الأدب الفرنسي كتبها الرائع جي دو موباسون “سنة 1884، وفيها يحكي عن فتاة جميلة” تدعى ماتيلد، شاء القدر أن تولد في عائلة باريسية متوسطة مع أحلام كبيرة في أن تصير من أثرياء المدينة، لكن تلك الأحلام اصطدمت بالكثير من العراقيل أبرزها زواجها من موظف حكومي بسيط في وزارة التعليم يدعى السيد لوسيل، كان المسكين يفعل ما بوسعه لجعلها سعيدة، لكن كل تضحياته لم تحظ يوما بتقديريها كونها تؤمن أنها تستحق أكثر بكثير مما تملكه، واستمر الأمر هكذا إلى أن جاء السيد لوسيل يوما حاملا معه دعوة إلى حفل فاخر في بيت وزير التعليم شخصيا، قدم الدعوة لزوجته وفر مستبشرا أن ماتيلد ستطير فرحا بأمر لم يحلما به يوما.

قرأت زوجته الدعوة على عجل، ووضعتها على الطاولة بتجهم متعمد مرددة قدم هذه الدعوة لأحد زملائك الذي تملك زوجته ملابس مناسبة للسهرة، أنا بالكاد أملك فستاتين مناسبة للخروج للسوق، شعر السيد لوسيل بالحزن لتصرف زوجته المجحف، وحاول إقناعها أنهما محظوظان بهذه الدعوة التي لا تقدم لمثلهما، واقترح عليها أخد أربعمائة فرنك لا يملك غيرها لاقتناء فستان مناسب، قبلت ماتيلد على مضض، وخرجت بالفعل في اليوم التالي لاقتنائه، عند عودتها للبيت هرولت نحو الغرفة لتجريب الفستان بدت رائعة الجمال في المرآة وأشاد السيد لوسيل بهذا بافتخار كبير لكنها تجهمت مجددا بشكل مفاجئ، قائلة: تبدو طلتي ناقصة دون عقد مناسب. اقترح السيد لوسيل أن تقتني تاجا من الزهور الطبيعية مؤكدا أن الطلة ستبدو أكثر أناقة، وجهت له ماتيلد نظرات استخفاف قائلة يظهر أنك تريد أن أبدو سوقية أمام الملأ، أجاب لوسيل إذن يمكنك اقتراض إحدى مجوهرات صديقتك الثرية السيدة فورستي، انفرجت أسارير ماتيلد واتجهت من فورها إلى بيت صديقتها، التي فتحت خزانتها أمام ماتيلد قائلة اختاري ما تشائين عزيزتي، جربت ماتيلد الكثير من المجوهرات لكنها لم تعجب بأغلبها، إلى أن وقعت عيناها على عقد ماسي فاخر وجميل جدا، أسرعت بتجريبه وكم كانت سعيدة أنه ناسبها جدا وجعلها تبدو من الطبقة الراقية، ليلة الحفل رافقت ماتيلد زوجها في أبهى حلة، بدت أجمل سيدة في السهرة، وكانت أنظار النساء والرجال متوجهة نحوها، حتى أن الوزير نفسه طلب مراقصتها.

مقالات مرتبطة

استمتعت ماتيلد كثيرا، ولم تغادر وزوجها الحفل إلا عند الرابعة صباحا، وصلت البيت وهي في غاية السعادة، لقد كانت تلك أجمل ليلة في حياتها، أسرعت نحو المرآة لترى طلتها الرائعة قبل تغيير ملابسها، بدت جميلة جدا رغم السهر وتعب الطريق، وفجأة صرخت أين العقد!؟ استدار السيد لوسيل فزعا، ماذا حل بالعقد!؟ سألها خائفا، أجابت ماتيلد لقد أضعته، بحث الزوجان ليلتها في كل مكان دون جدوى، بل إن السيد لوسيل خرج لأربع ساعات بحثا عن العقد في الطريق الذي عادا منه للمنزل، وسأل أصحاب سيارات الأجرة، ووضع شكاية لدى الشرطة، وكتب في الجريدة عن مكافئة لمن يجد العقد، ولم يعد للبيت إلا عند السابعة صباحا، انتظر الزوجان لأسبوع كامل لكن لا أخبار عن العقد، هنا فكر الزوجان في شراء عقد شبيه بالعقد الأصلي، زارا أغلب متاجر المجوهرات في العاصمة وبعد تعب كبير أخيرا وجدا العقد المنشود لكن بثمن باهظ جدا، وبعد مفاوضات مع البائع قبل بيعهما إياه بست وثلاثين ألف فرنك، وهو ثمن لا يملك الزوجان ربعه حتى، والحل؟! لقد باعا منزلهما المتواضع واقترضا من البنك ومن كل معارفهما، وأخيرا أخدت ماتليد العقد لصاحبته، لم تخف السيدة فروستي امتعاضها من تأخر ماتيلد في إرجاع العقد، بعدها يكتري الزوجان غرفة زهيدة الثمن في أحد الأحياء الهامشية، ويقضيان عشر سنوات في تسديد القروض والفوائد، أصبحت ماتليد خادمة في البيوت، همجية عجوزا، فضة بسبب شظف العيش، صارت تشتغل في المنزل وخارجه طيلة أيام الأسبوع.

ذات أحد قررت الخروج للتنزه قليلا كونه اليوم الذي سددت فيه آخر حصة من ديونها، وبالصدفة تلتقي ماتليد صديقتها الثرية القديمة في الشارع المقابل رفقة طفل، بدت لها السيدة فورستي محافظة على شبابها وجمالها بل إنها ازدادت أناقة وأبهة، توجهت نحوها وألقت عليها التحية، لكن الأخيرة لم تعرفها فعرفت ماتيلد عن نفسها، تفاجأت السيدة فورستي وعلقت لماذا تغيرت بهذا الشكل الغريب صديقتي؟ وأين اختفيت طيلة هاته السنوات؟ قصت عليه ماتيلد قصة العقد والديون والمأساة التي عاشها الزوجان طيلة عشر سنوات، تجمدت السيدة فورستي من الصدمة وأمسكت يدي ماتيلد بعطف كبير قائلة، لماذا لم تخبريني عزيزتي؟ عقدي الذي اقترضته لم يكن سوى عقد نحاسي ومزين بماسات مزيفة إنه لا يستحق سوى خمسمائة فرنك!

أظن أن الصدمة واضحة من القصة، أقصد العبرة، قد يضيع الصمت الكثير من الفرص والسنوات في الندم، يقتل فينا الصمت قيمة إنسانية أساسية وهي الشجاعة؛ شجاعة المواجهة، وشجاعة قول لا أمام كل ما يؤذي هذه الروح التي هي من أمر ربنا تعالى، الصمت انتصار للكبت، كبت المشاعر والأحلام، وكبت ضعفنا وهشاشتنا التي يجدر أن نتصالح معها ونتقبلها لنجد الطريق نحو القوة والتغيير المنشود.

حين نصمت، فإننا نقول ضمنيا للعنيف والمتحرش والسلطوي، وجارتنا سليطة اللسان والسياسي الكاذب استمروا نحن نتقبل تصرفاتكم، حين لا نكتب يومياتنا، ولا نفضفض لأم أو صديق حال الشعور بضيق أو المرور باكتئاب، حين لا نرسم، أو نكتب قصيدة، ولا نزور الطبيب عند الإحساس بألم، أو نعتذر حين نخطئ، فإننا بذلك نسمح لطاقة الصمت الراكدة أن تنتشر وتستشري، حين نصمت فإننا نقتل فينا خطاب السؤال المولد للأفكار ونفتح الباب أما خطاب الأجوبة الجاهزة التقليدية والوثوقية.

الأطفال، والعصافير، والكتاب، والرسامون، والسنيمائيون، والرياضيون، وابنة خالتك الثرثارة، والباعة والمبدعون…كلهم يعبرون، كل بطريقته لأنهم يعلمون أن الصمت خطير وأن التعبير فعل مقاومة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri