التصورات بين أفكارنا وأقدارنا

العالم أكبر من تصوراتنا وأفكارنا وقناعتنا، لذلك بات من المهم أن ننظر للأشياء بنظرة استراتيجية واستشرافية جديدة لواقعنا المعاصر في ظل عالم يسارع الخطى في تغير عالم الأفكار وتصورات لواقع الأمور وفهمها فهما جديدا، ومدى مواكبتها لعصرنا الحالي في عالم فسيح وواسع المعرفة. إن ديننا الإسلامي الحنيف الذي قصرنا نحن المسلمين في فهم قيمه ومبادئه وتطبيقها على واقعنا المعاش من ثقافة الحوار وقيم الحرية والعدل والمساواة ورفض الظلم وإرجاع هذا الدين العظيم لأصله الحقيقي من مختطفيه من غلو وتعصب من الذين أضروا صورة الإسلام في العالم بشكل كبير من تنظيمات متطرفة وعنصرية شوهت صورته ناصعة البياض بأفعالها الشنيعة، وأنظمة غير أخلاقية أخرجت الإسلام من سياقاته الصحيحة إلى استعماله في تبرير ظلمها وفسادها من طرف أنظمة سياسية ودكتاتورية متطرفة سواء كانت عسكرية أو دينية.

إن أصل الأشياء التنوع والتضاد؛ فالاختلاف سنة كونية وهو متعة الحياة. وسبب كل المشاكل التي يعاني منها بنو البشر أنهم حصروا أنفسهم داخل حياتهم الروتينية ومشاكلهم اليومية وهذا أصل كل توتر وقلق وخوف، وإذا عرف الإنسان أن الدنيا أوسع وأشمل من حياته الخاصة وتصوراته للواقع وللمحيط الذي يعيش فيه، فهنيئا له وصوله للفهم الحقيقي للحياة ولسبب وجوده فيها. فالله خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض وأنه إذا أراد الله بعبده أمرا فسيسخر له الدنيا كلها من أجل ذلك ويقول له كن فيكون.

لهذا، تعتبر غايتنا وهدفنا الأساسي في الحياة الدنيا التعمير والسلام ونشر الخير والمحبة بين الناس، وليس التدمير أو الشر أو التباغض وكره الإنسان لأخيه الإنسان. والمؤمن بالله حقا هو الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكون إنسانيا في تعاملاته مع البشر بغض النظر وبعيدا عن ديانتهم، وطوائفهم، وألوانهم، وأعراقهم، وجنسياتهم، وأفكارهم ومعتقداتهم كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] وتكريم الله لعباده يكون بالسعادة والهناء في الأصل وليس بالشقاء والحزن، وإن كانت طبيعة الأشياء في الكون فيها خير وشر وفيها وابتلاءات من عند الله يمر بها كل واحد منا فالدنيا كتشبيه مجازي لا قياس معه؛ مثل فريق كرة قدم مرة يفوز ومرة يخسر، لكن ما يبقى هو الروح الرياضية وتقبل النتيجة كيفما كانت.

هكذا تسير الحياة؛ بنسق تصاعدي ارتفاعا وهبوطا فلا شيء ثابت على حاله، أوليس الفجر يبزغ بعد العتمة الشديدة من الليل والظلام؟ أوليست السعادة تأتي بعد الحزن الشديد؟ أوليس الأنبياء والرسل والعظماء في أمة الإسلام وفي العالم من علماء ومفكرين عانوا في حياتهم أيضا؟ أوليس سيدنا نوح لم يؤمن بنبوته ابنه ولم يصعد معه إلى السفينة بعد الطوفان؟ أوليس خبر الخلق عليه الصلاة والسلام تعرض للأذى بعد دخوله على أهل مدينة الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فعاملوه بطريقة سيئة لا تليق بمقامه ومكانته العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، ورفضوا دعوته وأسالوا دمه الطاهر عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم بعد رشقهم له بالحجارة؟ وغيره الكثير من الأنبياء والرسل الذين تعرضوا للشدائد والأزمات بل وأن بعضهم لم يؤمن به حتى أقرب الأقربين لهم من أبناء وإخوان لهم وكذبوهم ولم يصدقوهم، ولكن الله غير أحوالهم وأقدارهم إلى أفضل حال وانتشرت دعوتهم بين الناس ودخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، ولا يذكر التاريخ من كذبهم وحاربهم إلا بسوء وخزي وعار.

لا ينبغي على الإنسان أن يحزن من ماضٍ لا يستطيع العودة إليه وتغييره؛ فأقدار الله سارية، وإيمان الفرد بالله لا يكتمل إلا بالإيمان بالأقدار خبرها وشرها، وقدر الإنسان كان كتابا موقوتا عند الله عز وجل. ولا يخاف من المستقبل لأنه بيد الله؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] وهو ما ذكره أحد كبار الفلاسفة في التاريخ الإنساني، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: حيث قال أن الإنسان لو أدرك حقا أن كل الأشياء في الحياة في تغير دائم ومستمر، فسيتعلم ألا يحاول أن يتمسك بشيء أكثر من اللازم. وهذا هو منطق وجوهر الحياة؛ إذ لا يجب أن نعطي أي شيء -سواء كان إنسانا أو موقفا أو عملا نقوم به أو أي شيء في حياتنا- قدرا أكبر من حجمه أو استصغار قيمته؛ إذ لكل شيء حدوده ولكل مقام مقال.

الحياة قصيرة ولا تستحق منا إلا أن نعامل أنفسنا بلطف ونتقبل ذواتنا بكل ما فيها من خير، ونعمل على إبعاد الشر من أنفسنا الأمارة بسوء بفعل الخير ومساعدة غيرنا قدر استطاعتنا. وأن يحسن الإنسان إلى أخيه الإنسان. لِمَ لا نعتبر الحياة في النهاية مثل رحلة قطار أو طائرة تجمع فيها الأقدار المسافرين على متن رحلة سفر عابرة يتبادلون فيما بينهم مشاعر الود والمحبة، ويتعاملون فيما بينهم برقة وأدب متبادلين، وحرصهم على مشاعر الآخرين؛ إذ أنهم يعلمون أن تجمعهم هذا لن يطول، وسيتفرقون بعدها، وكل منهم سيذهب إلى حال سبيله، فلِمَ لا نكون مثل المسافرين ونتعامل فيما بيننا في حياتنا اليومية بنفس هاته الروح ونحسن العشرة ونخفف على أنفسنا متاعب الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri