وفي أنفسكم!
جسد الإنسان آلة معقدة مركبة، أودع فيها الخالق عز وجل سره، وجعلها من خلال تركيبها، وتقلباتها، ومراحل نموها وآليات دفاعها آية معجزه تدل على عظمته وعلمه وقدرته المطلقة. {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وإن شبهناه بالآلة فليس القصد من وراء ذلك أن نسمها بالمادية المجردة من كل معاني الروح، وإنما للإشارة إلى تمظهراتها البنيوية والوظيفية التي قد توحي للعالم المخبري الطبيعي أن هذا الجسد هو مجرد كائن مادي تطور عبر الزمن، فسار إلى ما وصل إليه اليوم. في حين يوجد من الظواهر النفسية والباراسيكولوجية التي يقر العلم الحديث بها ما يدحض هذا التوجه وينسف هذه الفلسفة من جذورها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، عدد كبير من الأمراض التي تصيب الإنسان، يكون مردها وسبب حدوثها راجعا إلى متاعب وآلام نفسية قديمة تتضخم وتتراكم عبر الزمن، لتنفجر في الأخير وتطفو على سطح الجسد متشكلة في أمراض واضطرابات عضوية قد تصل في حالات عدة إلى السكتة الدماغية أو القلبية. تسمى هذه النوعية من الأمراض والاختلالات بالأمراض السيكوسوماتية، وهي معروفة ومصنفة ضمن قوائم الأمراض عموما، ولها تأصيلها الأكاديمي لدى الخبراء وعلماء الطب. وللإشارة، فقد أصيب أحد أنبياء الله بهذا المرض، كنتيجة لحالة نفسية اتسمت بالحزن الشديد والكمد البليغ الذي آلمه أشد الإيلام حتى انتهى به إلى فقدان بصره، ويتعلق الأمر هنا بسيدنا يعقوب عليه الصلاة السلام؛ فقد أخذ منه الحزن على ابنه يوسف مأخذا شديدا عظيما بعد أن فقده ولم يستطع حيلة لإيجاده، وكان يعلم في قرارة نفسه أن إخوته هم من كادوا له وتسببوا في اختفائه، مما زاد من حزنه وكمده.
تأخذنا هذه الحقيقة في التحليل والرؤية إلى أن نخلص إلى مجموعة من الاستنتاجات والنتائج:
أولا: هذا النوع من الأمراض ثابت وموجود قطعيا من الناحية الدينية القرآنية ولا ينكره الدين، بل يعطينا نموذجا حيا عنه.
ثانيا: نبي الله وكل أنبيائه عليهم السلام، لهم جانب مرتبط ببشريتهم، متعرض للضعف والمعاناة والنقص، مما يؤكد أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه، بعد توفيق من الله عز وجل وهدايته وعنايته، إلا بقطع أشواط عظيمة من المجاهدات والتضحيات الجسيمة والمعاناة والمكابدات، فهم أكثر الناس بلاء، وأشدهم تعرضا للامتحانات الصعبة الشاقة التي لا يقوى عليها عموم الناس. كما أن هذا الجانب البشري الصرف المتسم بكل ما يتعرض له الإنسان من عوارض الضعف والعجز والمرض هو صمام الأمان الذي من وظائفه أن يعصم أتباعهم من الوقوع في تأليههم وتقديسهم كشركاء لله إن هم أعملوا عقولهم وبصائر قلوبهم. فالله تبارك وتعالى ما كان ليضل قوما إلا وقد حقت عليهم الضلالة وطمست عقولهم وطبع على قلوبهم وتاهوا عن أصلهم وجوهر خلقتهم الأولى.
ثالثا: تؤدي الحالة النفسية للمريض دورا أساسيا في عمليه العلاج، فإن كان محاطا ببيئة إيجابية تشد من عضده بالكلام المشجع المتفائل الطيب الذي يعين في التلطيف من حدة مصابه، فإن هذا يساعد كثيرا جسمه في تقبل الدواء والتفاعل بشكل إيجابي معه، مما يسرع من صيرورة الشفاء. أما إن كان هذا المريض -تعيس الحظ- محاطا بأشخاص سلبيين متشائمين، يزيدون من هلعه وقلقه، ويمعنون في ملاحظاتهم المدققة المهولة لحالته ويستعملون ألفاظا وتعابير جسدية موحية له بعظيم خطورة حالته، فإن هذا ما يزيده إلا مرضا وعذابا ويمنع جسده من تقبل العلاج، مما يجعله في حالة لا يحسد عليها.
لأجل هذا، شرع الله لنا من خلال سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ألا نستعمل مع المريض أثناء عيادته إلا الكلمات الطيبة الإيجابية المعينة له على تجاوز صعوبات مرضه. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَهُوَ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْمَرِيضِ. أخرجه ابن ماجة (1438) والتِّرْمِذِيّ” 2087.
وختاما، فإن هذا يؤكد مرة أخرى أن الإنسان مخلوق مركب تتداخل فيه المادة والنفس والأثير، ولا يمكن لأي دراسة أو منهج أن ينجحا في إعطاء الحلول الناجعة لمشاكله إلا بمراعاة جوانبه التكوينية المختلفة.