قنابل موقوتة على وشك الانفجار

شاب في مقتبل العمر يجوب أزقة المدينة ويعترض طريق المارة، أم تخلت عن أطفالها واختارت الشارع عالما وملجأ لها، رجل في سن الأربعين يجول الأحياء والطرقات بلا هدف محدد وهو يردد كلاما لا يفهمه غيره، وتلك فتاة في زهرة شبابها تجلس على قارعة الطريق دون أن تنطق حرفا واحدا، وغيرهم كثير ممن يعيشون في عالم منفصل عن عالم البشر. يرون الحياة بأعين غير التي نراها بها، أشخاص تقرأ وراء نظراتهم براءة الطفولة وصخب الصغار، تمرد المراهقين وحكمة الشيوخ، تختلف قصصهم وحكاياتهم وفي النهاية يكون مصيرهم واحدا، منهم من كان يعيش عيشة كريمة، منهم من كان يرسم أحلامه الوردية الجميلة، ومنهم من كان يكافح لتحقيق أهدافه وطموحاته، إلى أن جمعتهم الحياة في كنف الشوارع والأرصفة، لتجعل منهم أجسادا بلا أرواح.

كل يدور في فلكه، هؤلاء الأشخاص هم الذين لم يتحملوا كبد الحياة وتعبها، إنهم مرضى الاضطراب النفسي والعقلي الذين يصفهم المجتمع بـ ”المجانين” يهيمون في الشوارع ويجوبون طرقاتها غير آبهين بما حولهم، بوجوه شاحبة وأعين جاحظة تقرأ فيها مأساة مجهولة. شعر أشعث وأجساد متهالكة لا تحميها سوى قطعة قماش بالية ورثة، من يأبه لهم؟ ومن يحس بآلامهم التي يخفونها وراء عالمهم!؟ ولماذا نلاحظ تزايد هذه الفئة من الناس بشكل كبير في الشوارع؟ من المسؤول عن حماية هذه الفئة الهشة الضعيفة من الاستغلال والأذى؟

وغيرها العديد من التساؤلات التي تطرح نفسها في ظل واقع مجتمعي ينبذ، يهمش، يقصي ولا يعترف من الأساس بفكرة المرض العقلي والنفسي، سواء على المستوى المؤسساتي أو على المستوى الشخصي، مما يدفع غالبية الأسر إلى تجنب الاعتراف بأن أحدا من أفرادها يعاني من اضطراب عقلي/نفسي، إلى أن تتفاقم الحالة فيصبح مشبوها في محيطه مشكلا مصدر خطر، فتلجأ الأسرة حينها إلى الحل الأسهل؛ قطع صلة الوصل بينها وبين ذلك المريض وإخراجه من دائرة حياتها بشكل نهائي، ومن ثم يجد نفسه وحيدا بلا مأوى ولا دعم نفسي ولا معنوي فتزداد الحالة خطورة، خاصة مع ما يحمله الشارع من الأذى والاستغلال ونظرات الاحتقار والاشمئزاز.

في ذات السياق على المستوى المؤسساتي، لا يمكن التغافل ولا إنكار عن أن عدد الأطباء والأخصائيين في هذا المجال قليل جدا بل يكاد يحصى، فلو استطاع هذا الإنسان الضعيف المهمش الذي وصل به السيل الزبى حجز مكان له داخل هذه المؤسسات أو المصحات التي نكاد لا نعرف عن وجودها إلا الاسم، ما يلبث إلا أن يكون مصيره زنزانة انفرادية يموت فيها وهو على قيد الحياة، ليبقى الرابط الوحيد الذي يربطه بالحياة هو تلك الحبوب المهدئة التي تجعل الإنسان عبارة عن كومة من الأحاسيس الملبدة، ليصبح مع توالي الأيام والشهور وربما السنوات عبارة عن قنبلة موقوتة على أهبة الانفجار في أي لحظة.

هذا الأمر، يدفع بالضرورة للتأكيد على أن دور الدولة والمؤسسات كما هو الحال في جميع القضايا المتعلقة بالحالات الإنسانية عامة ليس فقط العلاج، ولكن المعاينة والمتابعة الدورية نفسيا ومعنويا حرصا على استكمال الشفاء واستقرار الحالة من الاضطرابات التي تكون مثل شبح مخيف يمكن أن يستيقظ في أي لحظة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri