حين تزخرف فناء نافذتك بإناء من خزف وتغرس فيه شجرة من شأنها أن تكبرَ، فإنها على تطاول الأمد تكبر وتمد جذورها لتتجاوز كل تربتها وتشق جذورها الإناء الذي نبتت فيه، مما يستلزم نقلها إلى مكان أوسع وأفسح.
ويبدو أن عُملة الفكر كعُملة التجارة ؛ فكلاهما يستلزم إتقاناً في الصياغة وجودةً في التسويق والنشر للوصول إلى أبعد مدى ممكن، وتظل مؤونة التسويق وضريبتُه في كثير من الأحيان، ضريبةً جائرة غالباً ما تلقي بالصياغة في مغبة التحريف.
ولا شك أن من يُفنِي زهرة شبابه ويسلخ سني عمره في القراءة والكتابة والتنظير، وصياغة آرائه الإصلاحية للمجتمع، لن يستغني بحالٍ عن جهة ذات بُعد سياسي إيديولوجي لها مصلحة تتوخاها من ذلك المنتوج، فتعينه على تسويقه و”ينتمي” إليها عمله، وهذا ما يزال يشكل عقبة كؤوداً في طريقه الإصلاحي إذ يضطره ذلك إلى تفصيل بعض أفكاره على مقاسات تلائم الجهة المتبنِّيةَ.
وإما أن يقبل بعض تلك التجاوزات والخروقات، فيغض الطرف عنها تحقيقاً لما يراه مصلحة أعظم وأهم، وهنا يقع في شرك سقوط المصداقية عند عامة الناس والمجتمع ممن هم مستهدَفون في الحقيقة بالمشروع الإصلاحي، فضلاً عن انعدام مصالحة مع الذات وتأنيب الضمير. فيكون قد أسبغ على مشروعه الفكري مسحة قاتمة من نفي المصداقية، وبيع ذمته بثمن بخس.
بين هذه المطرقة وذاك السندان يُدقُّ آخر مسمار في نعش المشروع الإصلاحي للمثقف ويتم إجهاضه قسراً.
هذا الإشكال الصعب هو ما أسقط الكثير من المشاريع الإصلاحية في فخ التبعية، فصار التابع متبوعاً والمتبوع تابعاً.
وكثير من أهل الثقافة والمعرفة من ذوي الضمائر الحية، والنفوس العالية، آثروا في الأخير إزاء هذا الخيار الصعب الانزواء عن الأضواء وطي صفحتهم من سجل التاريخ لهذا السبب. لن نمثل لهم لأنهم بطبيعة الحال غير معروفين.
قد يقال بأن وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة قد تغني عن هذه المغامرة الخاسرة في التبني؟
والحقيقة أنها تظل خافتة ليست بذات جدوى؛ إذ لا توفر سوى إشعاع بسيط للمثقف وأفكاره، حتى إذا بلغ أشده واستوى على سوقه وصارت كلمته ذات صدى في نبض المجتمع وتقلباته، يُفرض عليه منطق ” أنت إما معنا أو ضدنا”
وهذا المشكل ليس وليد اليوم أو الأمس، بل هو قديم قِدم الحضارة والفكر الإنساني، فهذا أرسطو ـ كما يذكر مؤرخو العلوم ـ شكل لجنة من الباحثين تزيد على الألف، انتشروا في أنحاء آسيا واليونان يجمعون له النماذج والعينات الحيوانية والنباتية من كل أرض، هذا كله بتمويل من الإسكندر الذي أعطاه 800 وزنة من المال مما يعادل القوة الشرائية لأربعة ملايين دولار أو أكثر…
وفي حضارتنا العربية الإسلامية من ذلك نماذج كثيرة كخلافة المأمون العباسي الذي كان ملاذاً للعلم وترجماناً للمعرفة، لكن تبنيه لبعض الأفكار الاعتزالية أودى بكثير من العلماء الذين كانوا ضده.
ويمكن أن نقول بأن ما ينطبق على المثقف كفرد، باعتباره قد بلغ النضج والكمال، ينطبق على بعض مراكز الدراسات التي تتبنى الشباب الناشىء في شكل من أنواع التجنيد لخدمة توجهاتها ومصالحها.
في الأخير يظل أحسن مثال على ما تقدم موقف فرعون الذي امتن على موسى بالتبني فقال له (أَلَمْ نُرَبِّك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين…)
وكان الجواب من المصلح الذي لا يتغاضى عن الحق ونصرة المظلومين وينكر استعباد أبناء شعبه إزاء هذه المنة البسيطة ( وتلكَ نِعمةٌ تَمُنُّهَا عليَّ أن عبَّدتَ بني إسرائيل) فكم في مجتمعاتنا من إخوان فرعون… وما أحوجنا إلى أشباه موسى!.