زلفى إلى خير البرية

هناك في بطحاء مكة كَهْلاً قد نيَّف عن الأربعين، وقف في بضعةِ
نفرٍ من الناس داعياً إلى رسالةَ ربِّه، لا نصير له ولا رُكنَ شديداً يأوي إليه إلى حين يشتدُّ عوده ويظهر في الناس أمره ودينه.
وقف في وجه سَراة قومه من ذوي الصَّولة والحُكم والبطش الشديد، لم يأْلُ في النصح لهم والأخذ بأيديهم نحو الحق والطريق المستقيم، وهو منهم في ذلك بين الترغيب حيناً؛ بالمُلك والمال والنساء، والترهيب حيناً بالقَتل وزور القول والإفك والبهتان؛ فقالوا ساحر وشاعر ومجنون…
نصبوا له العداء سرّاً وجهراً، وعقدوا له أحابيل المَكر والكيد فُرادى ومثنى وجموعاً نهاراً وليلاً، ألَّبوا عليه السفهاء والطَّغام حيثُما قام مبلغاً وداعياً.
وضعوا سلى الجَزور (ما يخرج مع ولد الناقة من رحم أمه حين يولد) على ظهره الشريف وهو ساجد لربه حذاء الكعبة، وأغرقوا في الهُزءِ والسخرية من ذلك، إلى أن جاءت بنته مرتاعة تنهمر مدامعها فأزالت عنه ما كان، وقد بلغ منها الحزن والأسى أيَّما مبلغ.
ضاقت عليه آكام مكة وشعابُها، وهي مرتع صباه وأَرُومة أهله وعشيرته، فوقف وهو يستقبل الصحراء ينظر من ورائه وقد ذرفت عيناه قائلاً: (ما أطيبكِ وأحبكِ إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما خرجتُ).
دارت بينه وبين الجاحدين لرسالته عتواً واستكباراً، وبغياً وجبروتاً رحى حروب وأيامٍ شديدة عصيبة قضى فيها خِيرة أصحابه ورِفاق دعوته؛ فذرفت عيناه الشريفة عليهم ونزل الذكر الحكيم يواسيه ويشد من عضُده.
لم يكن جحود قومه وعشيرته بالأمر الباعث له على الحقد عليهم، أو السخط على ما بدر منهم لعقدين من الزمن، بل استبد به الحزن والأسى والشفقة عليهم أن تحيد بهم النفوس الأمارة عن طريق الحق (لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفاً).
ودَّع أمته في حجة الوداع بوصية الأب الشفيق الرحيم، يُشهِد اللهَ ويُشهِد خلقه أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، يسألهم في ذلك سؤال مؤْتَمنٍ على خاتمة الرسالات وآخر النبوات. اللهم فاشهد اللهم فاشهد…
وقف على منبره وقد جاوز الستين يرى الرعيلَ الأولَ من أمته قد استوى على سوقه وتلقى رسالة ربه على المحجة البيضاء، بعدما لقي في ذلك ما تنوء به الجبال الرواسي.

ثم أقبلت عليها زهرة الدنيا وزخرفها، وثمار نصبها وعنائها، فآثر ما عند ربه على كل ذلك (إِن عبداً خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده)، قالها إيماء لا تصريحاً حفظاً لنفوس أصحابه وتعزيةً لهم في رحيله عن الدنيا.
أوصى بمن كُنَّ له نعم السندِ في خطواته الأولى؛ كخديجة (استوصوا بالنساء خيراً)
وأوصى بمن كانوا له اليد والقوة الدافعة؛ الأنصار (استوصوا بالأنصار خيراً)
ثم نظر هل بقي من أحد، فإذا بجانبه رفيق الدرب منذ اليوم الأول؛ الصاحب الصدِّيق؛ ذاك الذي مد كف البذل والصحبة منذ البداية، بالمال والعمر والولد، وذاك مقامٌ لا يقدر بمقدار، أو يُسدَّد بثمن (إنَّ مِنْ أَمَنِّ الناسِ عليَّ في صُحبته ومالِه أبو بكر، ولوْ كنتُ متخِذاً خَلِيلًا لاتخذتُ أبَا بَكْرٍ)
يهمِس ـ وهو في علته ـ بأذن بنته فاطمة أنك سيدة نساء الجنة، وأول أهلي لحاقاً بي.
لم ينس عهد أصحابه الذين قضوا في حياته، فوقف على “البقيع” يودعهم ويذَكِّر بعهدهم ووفائهم.
ثم يذكر من أمته أقواماً حجبتهم السنين والقرون السحيقة (اشتقت إلى إخواني!) فقال الصحابة: ألسنا بإخوانك؟ قال (بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ)
ها نحن يا رسول الله إخوانك الذين آمنوا بك ولم تكتحل أعينهم بلقائك، ولا بلقاء من لقيك، آمنوا بك وبهديك ورسالتك، تلهج ألسنتهم بالصلاة عليك كلما ذكروك، وتذرف عيونهم بالشوق إليك كلما سمعوا سيرتك العطرة، وأيامك الخالية.
يستبد بهم الشوق والحنين، كلما هلت عليهم ذكرى ميلادك أو هجرتك أو إسرائك ومعراجك، يستشفون منها معانيك وخلالك وأخلاقك وأياديك، ثم يرجعون إلى دنياهم بقلوب ملؤها الحب والتحنان إلى يومٍ تكون فيه اللقيا المأمولة على حوضك الشريف، إلى شربة هنيئة لا ظمأ ولا نصب بعدها أبداً.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد خاتم النبيئين وعلى آله الطاهرين وصحابته الأكرمين الميامين وسلم تسليماً كثيراً مباركاً إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.

1xbet casino siteleri bahis siteleri