2020 سنة المساواة

لعل قارئ هذه الكلمات وأنامله تتقلب على صفحة الهاتف ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، يكون على يقين بأنه من جيلٍ كُتِب له أن يحظى بأمن مَعيشي ونعيم مادي ما كان مُتاحاً لعموم بني جنسه فيما مضى من الزمن؛ فقد استطاعت هذه التقنيات أن تحمل عنه ما كان ينوءُ به من أعباء حياته اليومية، حتى صارت مآربُه في أغلب الأحيان تُقضى فقط عن طريق الأصابع.

ومع ذلك فقد أتى على هذا الجيل حينٌ من الدهر آلت فيه منظومته الاجتماعية والقيمية إلى غاية من التعقيد، فصار جُلُّ ما يوصف به منحصراً في المعاني السَّلبية؛ كاللامعنى واللامسؤولية واللامبالاة، وهلُمَّ لاءات… وقد ظلت هذه التعقيدات إلى الآن عصية على التحليل فضلاً عن الحلول، إلى أن حلت الجائحة فملأت الدنيا وشغلت الناس.

ومن حيثُ لا يُحتسَبُ، فقد أزالت هذه الجائحة بتحليلاتها “الإيجابية” الستار عن كثير من الخفايا، فانبسط منها ما كان معقدا، واتضح ما كان خفياً، وتجلى فيها معنى قول الحسن البصري رحمه الله : ˮالناسُ سواسيَةٌ وقتَ النَّعم، فإذا نزلَ البلاءُ تبَايَنُوا“، ولا يخفى أن مدار التباين على معنى التفكيك والتمايز، وتلك أول خطوة نحو الفهم السليم لدقائق الأشياء؛ ففي أسابيع قليلة ألقت الجائحة بظلالها القاتمة على شتى جوانب الحياة، وشلت حركة الكون بشكل ما كان يُرى إلا في خيال الروائيين أو صُنَّاع الفنتازيا، كما غربلت بمُنخُلها الدقيق كثيراً مما كنا نحسبه اختلافات جوهرية، فلم تبق في الأخير إلا نُخالة صفاتنا المتساوية على وجه الحقيقة؛ من الضعف والهشاشة وقلة الحيلة.

عشنا معاً وقع دهشة البدايات، حيث يسطع نجم الخرَّاصين وقد أطلوا علينا من نوافذهم يرجمون بالغيب؛ ما بين شامِت بغيره من بني جِنسه في غِبطة وسرور، ومُتَكايِسٍ ما ينفك يبدئ ويعيد في صياغة نظريات المؤامرة، وبين هذا وذاك كان صوتُ العقلاء من ذوي الحصافة والوعي أخفَتَ من أن يُسمَع، وأضعف من أن يؤثِّر، وما مضت إلا أيام حتى اتسعت الرقعة بشكل سريع، ليتساوى الجميع، فصارت سلامة فرد في شرق الأرض رهينة بسلامة آخر في غربها.

ولقد رأينا رأي العين أثناء كل ذلك كيف يقدم الإعلام ومُنتحِلُوه العربة على الحصان، وكيف يجعلون الإشاعة مَطِيَّة لكسب الأرباح ومسوغاً لنشر الأخبار بدلاً من العكس، ولعل “مارك توين” لم يكن على خطأ يوم قال: ˮتجوب الكذبة الأرض قبل أن تربط الحقيقة خيط حذائها!“، ولأن الغريق يتمسك بقشة، فقد تفننت أدوات التواصل في إمدادنا بين فينة وأخرى بجرعات من أمل تعدنا بانفراج قريب، ثم نفرك أعيننا كل صباح لنجد أن الطين لا يزيد إلا بلّة وأن المرضى لا يزدادون إلا علة.

طوت الجائحة خطوط الأرض طولاً وعرضاً في برهة من الزمن وعلى ذات المنوال طوت بنا المسافات نحو استيعاب دروس مكثفة في مدرسة الحياة، تلك الدروس التي ما فَتِئَت الأديان والفلسفات -في عمومها- تغرس قيَمها الأخلاقية في بني الإنسان على اختلاف مشاربهم طيلة أزمان مديدة، ومع كل ذلك فقد أبت فِئام منهم إلا أن ترى لنفسها مزية على من سواها من البشر، اتكاء على عُنجهيات عِرقية وأوهام عنصرية.. بدا كل ذلك في أيام قليلة على مرأى ومسمع من الجميع وهْماً يتلاشى، وقلاع رمالٍ تتداعى؛ فما اللون والعرق واللغة والقيم.. إلا قشرة لنواة الإنسان الواحدة.

بعدما فرقت الأزمة ما كان مجتمعاً، وجمعت ما كان مفترقاً، ظللنا في شرفات بيوتنا حيناً من الزمن في انتظار ما لمْ يأْتِ، وكان الأمدُ أطول من أن نطيق الانتظار أو نتخذ أي خيار. ولما كان ˮآخر الدواء الكيَّ“ فإننا لم نجد مناصاً من الارتماء في معمة الحياة، والتعايش مع ضيف ثقيل أبى إلا أن يقيم إلى أجل غير مسمى، فلم يرضَ إلا بأن نقاسمه نصف حياتنا، لنعيش معه أنصاف المشاكل ونكتفي في المقابل بأنصاف الحلول؛ فرضينا بنصف دراسة ونصف فهم، ونصف عمل ونصف مُرتَّب، وتقاسمنا في كل ذلك أنصاف الأحزان وأنصاف الأفراح حتى تستمر عجلة الحياة ولو كانت بطيئة.

كانت هذه السنة قاسية على الجميع، ومعلماً صارماً حملت الإنسانية دروسه كَرْها وسوف تضعها كَرهاً، فقد علمتنا أن المعرفة ليست كفيلة على الدوام بضمان الحلول الكاملة، لكنها تعطينا في الغالب أنصاف الحلول، وأن كثيراً مما نشغل به أنفسنا وندفع في مقابله راحتنا وعلاقاتنا بمن حولنا وعطفنا وصلَتنا بأهلنا وذَوِينا قد يكون في الأخير محض ظل زائل وسراب آفل، وأن ثراءنا الروحي والوجداني آخر حصن يمكن أن نتقي به آلام الفقدان أو اضطراب سبُل الحياة.

لا أسوأ من توقع الأسوأ سوى انتظار المجهول، تلك عبارة يمكن أن يستوعبها من انقطعت به الطريق يوماً عن بيته في ليلة ظلماء، أو بات ذات مساء يذرع غرفته مجيئا وذهاباً في انتظار نتائج تحليل طبي أو اختبار مصيري، يتردد صداها في أذهاننا ونحن نفتح أعيننا على عام جديد منتظرين بلهفة المَشُوق أن تسقط آخر ورقة من خريفه الطويل الذي أنستنا بعضُ مصائبه بعضاً، لنفتحها من جديد دون أن ينفرط عقد آمالنا على عام آخر لعله يكون أفضل وأجمل، مُفعَمين يقيناً بأن ”الشجاعة صبر ساعة“ يحدونا قول الشاعر اليمني:

فَلَيْتَ شِعْرِيَ والدُّنيَا مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ الرِّفَاقِ.. وَأَيَّامُ الْوَرَى دُوَلُ
هَلْ تَرْجِعُ الدَّارُ بَعْدَ الْبُعْدِ آنِسَةً وَهَلْ تَعُودُ لَنَا أَيَّامُنَا الْأُوَلُ

ومع ذلك، فإننا لا ننسى أن الزمن محض قوالب شكلية نضبط بها برامج أعمالنا ومتطلباتنا في الحياة، إذ لا أثر له بشكل حقيقي في تغيير مجريات الأحداث، فما زالت رحى الجائحة تطحن، وما زلنا نحمد سيء الأزمة من أسوئها.

وفي الأخير، فإننا سنلقي أعباء هذا العام الطويل وراء ظهورنا، ولا ندري ما يحمله لنا كتاب المستقبل بين دفتيه مما خطته أقلام القدر، لكننا نتمثل بما ورد في الأثر من أن ”انتظار الفرَج عبادة“، لنمشي بخطى وئِيدة مستضيئين في مسيرنا بنبراس الأمل متكئين على عصا الحذر، نحوَ نهاية قد لا يكون فيه باعثٌ على الفرح سوى النهاية نفسها، وإذا طلع الصباح استُغنِي عن المصباح.

1xbet casino siteleri bahis siteleri