إنسان الحضارة، لستُ أقول عنه سوى أنه إنسان تجلت فيه مظاهر الإنسانية. إنه إنسان صاغ واقعه بشكل يتناسب وفطرته. ارتفع عن بهيمية الغرائز، استمع إلى صوت العقل الذي مُيّز به. فاشتعل بنفخة الروح التي تسري في أركانه. أعمل فكره ثم شغل جوارحه بشكل أدى إلى إنتاج الحضارة، فكان هو إنسان الحضارة!
الصفة الأولى : مؤمن (حامل للعقيدة)
بغض النظر عن ماهية إيمانه، فما أقصده هو أنه يؤمن بدين ما، عقيدة، أو حتى فكرة فلسفية، المهم أن خاصية الإيمان هذه ترتقي به إلى عالم الروح وتضفي عليه نوعا من “الغائية” التي ترتفع به عن النتائج الدنيوية وتخلصه من سيطرة الغرائز وتربطه بعالم القيم والأخلاق ، فتحرك بداخله طاقة خفية تخرجه من عالم “التكديس” كما يقول بن نبي، فيكون بذلك حامل “لفكرة دينية”، أو كما أسماها الدكتور جاسم سلطان في قوانين النهضة بالفكرة المركزية التي تعتبر هي محور الحركة. وبما أن الفكرة الدينية أو المركزية هي المحرك نحو التغيير الحضاري، فمن البديهي أن يكون إنسان الحضارة – الذي يعتبر المغيِّر والفاعل حضاريا- يتصف بحمل هذه الفكرة في وجدانه، ويؤمن بها إيمانا يرتقي به إلى عالم الروح. ولقد ضرب مالك بن نبي مثلا في غاية الروعة في معرض حديثه عن أثر الفكرة الدينية في البناء الحضاري لم أجد أفضل منه لأمثل به، حيث قال:
” هذا القانون نفسه – ويقصد قانون الروح الذي طبعته الفكرة الدينية- هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار “أحد..أحد..!”
إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فصوت الغريزة قد صمت؛ ولكنه لا يمكن أن يكون ألغي بواسطة التعذيب، كما أنها لا تمثل صوت العقل أيضا فالألم لا يتعقل الأشياء. إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية بلال بن رباح”.
إن صفة الإيمان هي التي تؤدي إلى البناء الحضاري، كما أنها هي التي تحافظ عليه؛ إنها تشعل فتيل البناء أول مرة، وتحميه من تسلل الغلبة المادية عندما تزخر الحضارة بعالم الأشياء الذي نتج عن ذلك البناء، فتكون الغائية التي تصحب صفة الإيمان هي نظام المناعة الذي يدرأ عن الحضارة خطر الركون إلى عالم الأشياء الذي قد يقودها إلى الانحدار.
الصفة الثانية : مثقف (حامل لجذوره الثقافية)
ما أقصده بالمثقف هنا، ربما لا يكون نفس المعنى السائد والمتداول، أي ذلك الشخص واسع الإطلاع – وإن كان هذا مطلوبا وضروريا في إنسان الحضارة – ولكن ما أقصده هنا بالضبط، هو ذلك الإنسان المتجذر بثقافة حضارته، المرتبط بها، الحامل لها.. وإلا كيف ينتسب إليها؟! فمفهوم الحضارة يحتوي على شق مادي، وآخر معنوي هو ما نعبر عنه بالثقافة، ولهذا من الضروري أن لا يكون إنسان الحضارة مغتربا عن ثقافته طالما أنها تشكل جزءا من مضمون حضارته.
إن إنساننا اليوم أصبح مشوها ثقافيا، فاقدا للخصوصية المميزة له ولقد عبرتُ عنه ذات مرة فقلت واصفة إياه: “سرواله عصري، قميصه عصري، حذاؤه عصري ، تسريحة شعره عصرية، لا يختلف كثيرا عن البقية الآخرين ، اللذين جردتهم “العصرنة” من خصوصياتهم البشرية وجمعتهم تحت نمط هوليودي واحد موحد، لا تركتهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ولا علمتهم ذوقًا وأدبًا”.
هذا الإنسان الخالي من مظاهره الثقافية، المتجسِد بثقافة أخرى هيمنت عليه، والتي أشرت إليها بقولي “نمط هوليودي واحد موحد ” لا يمكن أن يكون إنسان حضارة طالما أنه يلهث خلف ثقافة غيره. وأود أن أوضح أن ما أقصده بالثقافة، ليس فقط المظهر- كما قد يهيأ للقارئ من تلك السطور التي أردت فقط أن أوصل من خلالها الصورة النمطية التي مسحت معالم الثقافة الذاتية- ولكن الثقافة هي مجموع القيم المعرفية والسلوكية التي تنبثق من حضارة الإنسان وهويته، إنها الجذور التي لن ينمو غرسه إذا ما اقتلعها، فحتى ثماره إذا كبرت فستكون دون رائحة أو لون أو طعم!
الصفة الثالثة :مبدع (صاحب فكر مجدد )
إنسان الحضارة ليس بالإنسان النمطي، المقلد، التابع، الرتيب. إنسان الحضارة هو ذاك الذي ارتوت عروقه بدماء التجديد والابتكار والإبداع حين تسامى بروحه فتسامت معه ممكناته وانطلق فكره ليتحف ويجدد، إنه إنسان لا يخضع عقله للأفكار القديمة دون نقد أو تمحيص، إنه إنسان لا يكتفي بما وجد عليه آباءه الأولون بل إنه دائم الإعمال لعقله، مجدد في فكره وفعله.. هذا الإبداع الذي يتصف به إنسان الحضارة يكون نتيجة التهيئة المناخية له، وإننا لنجد في الحضارة الإسلامية أروع النماذج الإبداعية من عقول فذة جددت الفكر وأبدعت فيه، مثل: “الغزالي وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسيبويه، والكندي، والفارابي، وابن رشد، وغيرهم ممن اختلفت أوطانعم وتباينت جذورهم وقدمت من خلالهم الحضارة الإسلامية إلى الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني.
و كيف لا نجد مثل هذه النماذج وغيرها في حضارة يقول مؤسسها-صلوات ربي عليه- في الحديث المتفق عليه، “إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر”! فكان فتح باب الاجتهاد من أهم المبادئ التي فتحت باب إعمال العقل، أزالت هاجس الخوف من الخطأ، فأطلقت مكامن الإبداع في الحضارة الإسلامية.
الصفة الرابعة : ذواق ( حامل للجمال )
الذوق الجمالي هو توأم الإبداع، وهما رفيقان في كيان إنسان الحضارة. ولقد تنبه مالك بن نبي للدور الحضاري الذي تلعبه النزعة الجمالية في كيان إنسان الحضارة حيث قال: “لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه”. ولهذا لا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يكون ذوّاقا تطبع في خياله صور الجمال قبل أن يطبع حضارته بها، كما أن صور الجمال في حضارته تطبع خياله ليزيد الجمال جمالا فيرتقي بذائقته وبالتالي بحضارته، إنها علاقة مركبة وضرورية تلك التي توجد بين الجمال وإنسان الحضارة، ولذلك لابد له من أن يكون ” ذوّاقـا”!
نجد في الحضارة الإسلامية أمثلة الجمال لا تعد ولا تحصى، وهي لم تكن تقف عند زخارف المآذن والصوامع والقباب والقناطر، بل يظهر الحس الجمالي حتى في الابتكارات الميكانيكية وغيرها حيث لم تخلُ من اللمسات الجمالية التي طبعت إنسان الحضارة الإسلامية..
فإذا كان إنسان الحضارة عموما لا يعدو عن كونه مفكرا أو عالما أو فنانا.. فإنه لن يستغني عن الجمال كي يطبع به فكره أو علمه أو فنه، وكلما ارتقت ذائقته..ارتقى معها إنتاجه الحضاري! Looking for forex platform to trade? Reliable best forex brokers in South Africa with real reviews. Find you who is the best.
الصفة الخامسة : فعال (صاحب منطق عملي إنتاجي )
الفعّالية هي صفة لصيقة بالبناء الحضاري، ولا يمكن لإنسان الحضارة إلا أن يتصف بها. فهي التي تترجم الفكر الحضاري إلى واقع حضاري، وبدونها لا يمكن الحديث عن حضارة. وكما يصف ابن نبي الفعالية فإنها
” نتاج حالة خاصة من التوتر، توتر في الضمير، أي توتر أخلاقي واقتصادي وعلمي ونفسي… وهو حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة، تكون فيها المبررات التي تكوِّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمته”
فهذا التوتر الذي تطبعه الفكرة في النفس فيخرجها من الفتور هو الذي جعل عمار بن ياسر في التجربة الإسلامية مثلا ينقل حجرين بدل الحجر الواحد أثناء بناء المسجد النبوي، وهو الذي جعل “استاخانوف” في التجربة الماركسية ينتج عشرة أطنان من الفحم بدل الخمسة التي ينتجها زملاؤه ، وهو الذي جعل ألمانيا تنهض من العدم بعد الحرب العالمية الثانية
و لعلي أكون قد وفقت في اختيار صفات إنسان الحضارة بشكل يتناسب وطبيعة الإنسان وطبيعة الحضارة المركبتين، بحث لم أغفل النسق الشمولي الذي يتمتع به إنسان الحضارة.