أين تبرز إنسانيتنا؟

850

ما الإنسان؟ كلمة كباقيها لطالما كان من البديهي تداولها من قبل العامة؟ لكن هل فكر أحدهم، ولو للحظة من حياته، أين يكمن كنه هذه اللفظة أو حتى تفحص معناها السطحي بعناية؟ أشك في الأمر بل أستبعده كليا. قيل إنه كائن عاقل، كائن كباقي الكائنات، يتغذى ويتكاثر، أضيف له العقل جعله يتصدر القمة. لكن هل تقتصر إنسانية الإنسان في كونه شيئا مفكرا؟ إذا افترضنا ما سبق سنسلم أن حتى الذات المجردة من الأخلاق وأية مبادئ تنعت بذات إنسانية فقط لكونها عاقلة. هنا سنجد أنفسنا أمام التعاريف المتباينة التي تطرحها التعاريف المتعددة للإنسانية.

ورد في المعجم على أنها الخصائص المشتركة بين جميع الناس على سبيل الحياة والحيوانية والنطق أو بطريقة أخرى أنها تختصر في كون الإنسان حيوان ناطق، المسار التفكيري الذي اتبعه الفلاسفة البيولوجيون، تلك الفرقة من الفلاسفة الذين اكتفوا بدراسة الطبيعة الإنسانية الحيوانية. في هذه الحالة، ستبرز القوة والاستحكام كالمعيار والمحدد الأساسي الفاصل بين البشر، أقصد أن الضعيف الوهن سينحني خوفا أمام الأزير المسيطر أو بالأحرى ما كان يطلق عليه قديما بسلطة الجبروت أي استفحال القدرة الطاغية والسلطة القاهرة.

فلنعد إلى عهد الإنسان البدائي؛ إنسان مبتدئ قد شرع للتو في ممارسة إنسانيته، اعتمد قطف الثمار والترحال أساسا لتأمين عيشه، احتمى من شدة الحر وحدة الشتاء، بل احتمى أيضا من أعدائه من بني الإنسان، حارب وتواجه، دافع عن نفسه من باقي الحيوانات، استطان بداخلهم ولو كان واحدا منهم، اتبع منهج حياتهم للبقاء على قيد حياته. غدت قوته ﻻ العقلية وﻻ الجسدية سلاحه وسيفه الوحيد، تدرع بها وشق طريقه في وسط ذلك الإمكان.

لذا، سأقول، إذا كان الإنسان البدائي اعتمد القوة كوسيلة، ونحن نعلم أن هذا الإنسان قد أقلع للتو في إنسانيته، وبطريقة تحليلية استنتاجية، سنخلص إلى أن تطبيق القوة والانتماء الطبيعي يشكلان أول مرحلة من إنسانية الإنسان وليس جلها كما جاء على لسان البيولوجيين. أما البعض اﻵخر من كبار الفلاسفة والمفكرين، فيربطون الإنسانية كأفق بالعقل المحرك للآلة الإنسانية وقائدها، فالإنسان ضحية تخمينه وتفكيره، عكس الحيوانات التي تسري وفقا لضرورتها وغريزتها الطبيعية.

مقالات مرتبطة

هذا يقودني للتساؤل حول ماهية الهدف والجدوى من تطور الإنسان إن كان العقل هو الذي يحدد إنسانيته؟ فذلك الإنسان البدائي كان هو اﻵخر كائن عاقل. أو على سبيل المثال الإنسان الأحمق أو الأهبل الذي كما يقال توقف عن ممارسة أنشطته الذهنية أو بأسلوب آخر فقد عقله كما يجري على لسان العامية، هل توقفه عن إشغال عقله جرده من إنسانيته؟ أنا متيقنة كل التيقن أنه لن يختلف اثنان على نفي ما قلته للتو وأشاطركم الرأي تماما. لذا، لا يمكننا القول إن إنسانية الإنسان يحددها عقله فقط، لأن العقل هو المنبه والمسير للقوة الجسدية الإنسانية والخيارات التي يمكن لهذا المخلوق الملقب بسيد المخلوقات اتخاذها.

لكن، هل القوة والعقل كافيان لتحديد الإنسانية؟ هذا السؤال الذي يصعب الإجابة عنه؛ فالآراء تتضارب حوله باختلاف منظور كل واحد منا لأهمية المعايير الأخلاقية. لماذا الأخلاق بالذات؟ إذا نزل أي منكم إلى الشارع وطرح هذا السؤال على أي من صادف: “ما الإنسانية في نظرك؟ فسيجيب المحاور: “إنها الأخلاق أي الصفات الحميدة بدون شك”. لذا، سأقف وقفة عند مفهوم وتعريف الأخلاق.

فنعني بها منظومة قيم، مجموعة من المبادئ التي تحرك الأشخاص والشعوب على الحرية والمساواة والعدل، فتحلي الإنسان بالأخلاق هي آخر مرحلة من تطوره حتى يمكن القول إنه بلغ أقصى إنسانيته. لماذا؟ عند تحول الإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، وجد نفسه يعيش داخل مجتمع تحكمه قوانين وضوابط أجبر على احترامها، وجد نفسه محاطا بأمثاله أجبر على احترامهم؛ أجبر بالأحرى على التخلي على قانون الطبيعة حيث سيطرة القوة وتقبل الحياة المدنية. فكان أمام خيارين: إما أن يتحلى بقيم وأخلاق تقود تعامله مع الآخرين، أو أن يتصرف بأنانية وخزي تجاه محيطه. أظن أن الخيار الذي اتخذه الكائن البشري يتضح جليا في وقتنا الراهن.

صار الإنسان كالبضائع وسيلة ابتزاز ومحطة اعتداء. أفسكت الدماء ولا زالت تفسك؟ استفحلت الحروب ولا زالت تستفحل؟ انتهكت كرامة الإنسان ولا زالت تنتهك؟ أي عالم متقدم هذا حيث أصبح الفقير يدفع ثمن حاجته؟ حيث صار الطفل الصغير يدعو أن يكمل نومه دون أن يوقظه صوت قنبلة تضربه أو تضرب أحد جيرانه؟ حيث أصبح المظلوم عاجزا عن فضح ظلم تعرض له؟ حيث أصبحت الشعوب تستوي في الشوارع طلبا في لقمة عيش؟ أي عالم متقدم تتحدثون عنه حيث أصبح شعب بأكمله يُسحق في رمشة عين؟ حيث صار الطاغون يتصارعون حول احتلال المراتب الأولى في التكنولوجيا أو بالأحرى العلوم الفضائية في حين تتصارع شعوب ضعيفة أخرى في تأمين طعام يومها؟

أنا لا أرى أي تقدم هنا أو حتى سعي نحو التقدم. أين هي تلك المساواة التي تدافعون عنها في خطاباتكم السياسية؟ أين هو ذلك العدل الذي تدّعونَ تطبيقه والدفاع عنه في محاكمكم الموقرة؟ أي عالم متقدم هذا حيث صارت الشعوب تطرد من داخل مواطنها ويرفض دخولها لمواطنهم؟ أتحسر وأقول إن الإنسانية تحتضر وتتوارى إن لم تكن مجرد وهم في أذهان مُعَلّميها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri