إن الناظر للتاريخ الإنساني يرى بشكل جلي سيرورته وصيرورته الحلزونية التي يعيد من خلالها ثوابته ونواميسه ومعتقداته، بل أبعد من ذلك فإنه يصل لدرجة تأكيدها. مما يجعل المستقبل – الذي هو حاضر الأمة بعد مدة من الزمن- ليس إلا شكلاً من أشكال استعادة الماضي بكل تفاصيله ( = الموضة الآنية أنموذجا). فرغم المتغيرات الراهنة، فإنه لا يتطور إلا من خلال ( = التأريخ العددي)، أما حقيقته الحقة فما هو إلا استعادة للثوابت السالفة وصبغها بصبغةٍ معاصرة مواكبة لواقع هذا الإنسان ( = تحديدا الإنسان الكوثر) .
إذن فكل المنطلقات والقيم السابقة لا زالت حاضرة إلى يومنا هذا رغم التطورات التي باتت لصيقة لها .. فتماهي هذا الإنسان في أمته، وأقنوميته لا تتحدد إلا بتدقيق النظر في تاريخه و تراث أسلافه، وهل هو مؤهل لأن يكون الإنسان “الكوثر- العالم”، الذي يجعل من تراثه مادة تطور أمته وأساسٌ متين، بعد تخليصه من ثقل الإيديولوجيا وتداعياتها اللامعرفية، قصد البناء عليه، والرقي بهذا البنيان، لبلوغ صروح الحضارة العظمى.
وبالرجوع قليلا لحضارتنا الإسلامية تحديدا، نجد أن أُسَّ رُقيها وأساسه تلاقح المعارف، وتداخلها، فبعضها كالأرضية لأخرى، وبعضها كمنظار لأخرى، وهكذا… وهذا الذي أثمر ذلك الإزدهار الحضاري-الفكري المنقطع النظير وقتذاك. وقد أسسوا لهذا قاعدة متينة وهي ما عبر عنه الشاطبي بعد حين من السمو : ” تقديس النقل وتسريح العقل بقدر…” بحيث لا يطغى أحدهما عن الآخر فالأول دون الثاني عنت، والثاني دون الأول عبث.
هذا هو البناء الحضاري الذي عمدت إلى تبنيه الأمة الإسلامية وآعتمدته، فأورثها هذا التسامق المعرفي، و رؤوس من دونها أذلة، والكل عيالٌ عليها وعلى علمائها. فالقصد من هذا الرجوع إلى الماضي هو آستكناه جواهره وفرائده، التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، نحتاجها هذا الإحتياج لأننا وببساطة فقدنا الخيط الناظم لكن من الأساسيات والمشروعيات، ومنها على سبيل المثال لا على الحصر : مشروعية السؤال، ومشروعية الإختلاف مع الآخر … التراث ما هو إلا قوة في يد الإنسان العالم الذي له مُكنة التفعيل والتفاعل بشكل يحقق التلاؤمية مع راهنية العصر الحديث المعرفية والعلمية .
إذ الحاكمية اليوم للعلم والمعرفة، وبهما يمكن التحكم بالزمن والتلاعب به أحيانا .. فالقطع أن عقيدة المستقبل لا يمكن أن تنتج لنا شيئا إن غيب عنها فقه حكم التاريخ. وتحقيقا للموضوعية وجب أن نرى الوجة الثاني لهذه القضية، الوجه الذي شوهه حداثيو الغرب بحيث آعتبروا التراث مجرد أنقاض عدى عليها الزمن ووجب نسخها ومسخها بكل ما هو آني ومعاصر .. ووجب الفرُّ منه أمام أول فرصة تسمح بذلك .. هذه التجاوزية لم تقف عند الغرب فحسب ، بل غدت موضة لمن له مسكة من العلم المشبع بمناهجهم من العرب، الذين قالوا كقول غيرهم ونافحوا عن نظرياتهم .. تشابهت أقوالهم وآختلفت أغراضهم ومآلات تطبيقات ما آنتهجوا .
فأُولوا التجاوز الأُوَلُ أدركوا أخيرا أنهم غارقون في العبث والتطيرات الشخصية التي آنتهت فور بدءها، لكن العرب إذا ألفوا أنفوا أن يتركوا فجمدوا على دعواهم، والباعث على التعجب !! أمن تراثهم يخجلون!! فحالهم كالناظر في مرآة محدبة من فرط تحدبها تضَخم كل واقفٍ أمامها رغم ضآلة حجمه . وليس القصد من وراء هذا تعظيم التراث وإحاطته بهالة التقديس الذي لا يجب المساس به .. لا وألف لا .. وإنما القصد تنخيل هذا التراث وآختيار الأليق للبناء عليه .
وقضية التنخيل هي التي تصنع لنا التمايزية بين الإنسان العالم والحالم فالأول كما أسلفنا الذكر فاعل متفاعل ومفعل. والثاني جامد يمني النفس بعودة النصر والمجد القديم .. لاحراك له إلا حراك أخيلته وعواطفه ومشاعره .. ولا تقوم الحضارة على كومة مشاعر فقط . فالحضارة شعائر ومشاعر .
وآخرة القول، إن التملص من التراث باعتباره موضوع عار وخجل أليم ، آعتبار ليس له أي أساس عقلي بقدر ما هو نفسي محض، يستمد قوته من التقليد .. ويحقق في نهاية المطاف قطيعة إبيستمولوجية .. تساهم بشكل خفي في هدم سواري الحضارة، وكسر لسلم رقي الأمة .
مقالات مرتبطة