الطريق إلى صنعاء
من الناس الذين أحبهم إثنان، يوسف وعدنان، مختلفين ومتكاملين، مغربيين جالوا العالم والتقيت بهم في عاصمة العالم : اسطنبول … هناك أخبروني بمنتدى الشرق الشبابي، الذي يجمع نشطاء الجمعيات و المدونين الشباب في رحلات ثقافية، استكشافية، دورية … كانت الرحلة الأولى في عضو الأمة المريض الذي يقاوم السرطان : فلسطين … ثم كانت الرحلة الثانية في البلد المسلم الجائع الذي انهارت قواه وبدأ يغمى عليه : الصومال … ثم انتهى.
مرت الأيام والشهور … فالتقيت بهما في الدار البيضاء في نشاط حول القيادة، دائماً يمشون سويا كالحبر الذي يزين الورقة : أخبروني بقرب موعد الرحلة الثالثة و رابط طلب المشاركة … فكتبت فيه ما تيسر، لتتيسر الأمور ويتم قبولي في الرحلة الثالثة : إلى اليمن … أكمل يوسف وعدنان كتابة التاريخ بالحبر الذي لا يمحى على الورقة التي لا تنسى … وانصرفت أنا إلى عالم الألغاز … إلى بلاد ما وراء الصحراء : اليمن
من الأمور التي أشكر الله عليها دائماً هي أنه لا تمر سنة أو سنتين حتى أتعرف على موريتاني تربطني به صداقة حميمية … فأحسن صديق لي موريتاني ولد بالمغرب، درس معي الثانوية و الكلية، شاركني الأفراح والمسرات، والأحزان و الملمات … من خيرة ما ولدت النساء ومن أطيب خلق الله … هذا الشعب يناسب طبيعتي. الموريتانيون، علمتهم الصحراء الهدوء والحكمة والصبر الأناة … يردون كل شيء إلى خالق كل شيء ويسبحون في أقدار الدنيا بقلب راض، فتفرح عند مجالستهم وتسر عند التحدث معهم لأنهم ليسوا في خصومة مع الخلق ولا في عراك مع الخالق، يتكلمون في الحاضر و شيء من الماضي ويتركون وساوس وحواجز ومخاطر المستقبل جانبا، يتركون كل ما يؤرق جانبا أمام السكر والشاي الصحراوي اللذيذ … يتكلمون العربية الفصحى، ويحفظون الشعر والقرآن و يحافظون على الإرث المقدس الذي يخصهم : إكرام الضيف وصلة الرحم
من المشاركين معي في رحلة اليمن واحد منهم، يسكن القنيطرة، ناشط نشيط، لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، لكن له في كل حدث يد، يكلمك في السياسة وكأنه أمين عام حزب سياسي وفي الدين وكأنه أستاذ جامعي في الدراسات الإسلامية وفي الحياة وكأنه رجل عجوز علم المعنى وفهم المغزى … جلس بجانبي في الطائرة وكان في الجانب الآخر المتوجهة إيطالي يتكلم الفرنسية ويعمل في تطوان … كنت جالسا بين روما ونواكشوط، بين أنانية الغرب وحفاوة الصحراء، بين من يتحدث معك لأنه مضطر ومن يتحدث معك لأنه يريد أن يتحدث معك
وكان في المقعد الآخر ممثل مصري مشهور جداً، يأخد الناس معه الصور ويفرحون عندما يتحدثون إليه … كان يرتدي نظارات سوداء وقبعة ويغطي وجهه بجريدة طيلة فترة انتظار الدخول إلى الطائرة … كان يبدو من وجهه أنه قد سئم من التبسم في وجه كل شخص، وأخذ الصور في كل مكان وتكرار نفس الكلام مع كل الناس … التقت نظراتنا لثواني، فلم أحرك لا الرأس ولا الشفتين وكأنني أرى شخصا لأول مرة، فتبسم وكأنه يقول “نعم أنا ذلك الشخص الذي تشاهده مرارا وتكرارا على التلفاز”، فرددت بابتسامة صغيرة تعدل وزن هذا الممثل في الميزان العالمي وكأنني أقول له “نعم أعرفك ولكن لم أشاهدك في فيلم أسطوري محبوك كفايت كلوب أو گلادياتور أو إنسيبشن، شاهدتك عن طريق الصدفة والضرورة في الجلسات العائلية حول التلفاز : ها السلام عليكم ديالك، يالاه تلاح”
آخد معي دائماً بعض الكتب التي أضطر لقرائتها في الطائرة لأنه وبكل بساطة لا يوجد أنترنت فوق السحاب … هذه المرة، وفي سماء أرض الحجاز، قررت إن عدت إلى سطح الأرض أن أعود لقراءة الكتب كما كنت أفعل قبل أن أشتري الهاتف الذكي … هو فعلا ذكي ولكنه يدفعك أيضاً لتضيع الوقت بمنتهى الذكاء : تقول بأنك سترى فقط الرسائل الإلكترونية وإن كان أحدهم قد بعث لك بشيء على الفايسبوك، لكن قوة غريبة تدفعك لترى مستجدات معارفك على هذاالموقع الأزرق ثم تويتر ثم تفتح الواتزاب ثم الإنستغرام ثم السنابشات ثم تبدأ بالرد على هذا وذاك ثم تسأل عن هذا وذاك، والطامة الكبرى والبلية العظمى هي أن هذا وذاك يعلمون بأنك قد رأيت رسائلهم فتضطر إلى الرد لكي لا يسيئوا بك الظن، ثم ترى الفيديو الذي نشره هذا وتضحك على نكتة هذا وتتألم لكآبة هذا وتفرح لنجاح هذا ووسط هذا الهيلمان الإلكتروني والكم الهائل من المعلومات تنسى بأنك قد دخلت فقط لرؤية بعض الرسائل والإجابة عليها، فيتكرر ذلك يوميا حتى تدرك أنك أضعت في عام أو عامين وقت قراءة عشرات الكتب
نزلت الطائرة في مطار صنعاء على الساعة الثالثة والنصف صباحا … يشبه مطار الداخلة لصغر حجمه … ما أثار إنتباهي عدد الماليزيين الذين يتشابهون في شكلهم و لباسهم وتصرفاتهم، كيف أنهم جلسوا بصمت حضاري على كراسي الإنتظار حتى قام الجميع بطبع جوازاتهم كي يرتبوا أمورهم بكل الهدوء الممكن بعد ذلك، كذلك هم في مناسك العمرة، وكذلك هم في تنمية بلادهم : يتسلقون سلالم التقدم في صمت وانضباط شديدين
هناك تأشيرة بين المغرب واليمن و لا توجد بينه وبين سوريا و يجب طلبها إذا ذهبت إلى موريتانيا ولكنها غير ضرورية إذا رحت السينغال … أردت أن أفهم هذه القسمة ولكن محاولة فهم مثل هذه الأشياء مؤرقة وتسبب وجع الرأس وارتفاع ضغط الدم، كما يقال : إذا أردت أن تعيش سعيدا فلا تفسر كل شيء ولا تدقق بكل شيء ولا تحلل كل شيء فإن الذين حللوا الألماس وجدوه فحما.
قرب مكتب التأشيرات كان يناظر شاب أشقر بعينين زرقاوين يظهر بأنه من قبيلة بنو الأصفر، يعني من القبائل التي تحكم الأرض اليوم ذات الشعر المائل للصفرة، قال لي بأنه من بلاد الأبناك و الساعات والشكولاطة وأنه ترك سويسرا كي يقضي شهرين هنا في اليمن … سألته عن السبب، فكان وقع كلامه كالصعقة الكهربائية في نفسي، قال أنه دخل الإسلام و تعلم اللغة العربية وهو اليوم يطلب العلم ويحفظ القرآن في المدارس الإسلامية العتيقة في شتى البلدان … ولغرابة الصدف، فآخر ما قاله لي أحد معارفي قبل مغادرة المغرب : “الناس كاتمشي لفرنسا وسويسرا، ونتا غادي لليمن” … لا يا حبيبي، راه سويسرا اللي كاتجي لليمن
لم أكن أتصور يوما أن أزور هذا البلد قبل سن الأربعين على الرغم من مكانته التاريخية العظيمة وخصوصية أهله الرائعة … أصلا، عندما أقرأ كلمة “اليمن” في الأخبار أو الجرائد أحس لا شعوريا بأن الأمر يهمني : أولا لأن إسمي هو إسم فاعل لإسم البلد “اليمن” : “أيمن”، ثانيا : لأنه منقوش في عقلي اللاواعي أن أصل العرب من هناك … ثم هناك تلك المحبة التي جاءت تلقائيا من خلال التعرف على اليمنيين المنتشرين في العالم والذين يمتازون بشكل ملفت للنظر بالبساطة والتواضع وبشاشة الوجه
دخلت الفندق وكلي فضول لإكتشاف هذا البلد، أغمضت عيناي لأبحث في داخلي عما يوحيه لي اليمن، أو بالأحرى عما رسمته الأفلام والأخبار والكتب عن هذا البلد، فرأيت الوجه المحروق لعلي عبد الله صالح و هو يصرخ “فاتكم القطار”، ورأيت توكل كرمان تتكلم بكل ثقة أثناء استلامها جائزة نوبل للسلام، ورأيت جماعات مسلحة تنفث الغبار بمدرعاتها وسياراتها حاملة رايات سود وسط صحراء قاحلة لا أميز بينهم هل هم الحوثيون أم تنظيم القاعدة أم القبائل المسلحة و كل اليمن مسلحة … ثم رأيت رجل يرقص باللباس اليمني التقليدي واضعا خنجرا في حزامه … ثم رأيت منقبات تمشي في أحياء صنعاء المكتضة وسط المتسولين والفقراء والمساكين
لا، هذا غير ممكن … هل هذه هي صورة اليمن التي بداخلي ؟ … حاولت أن أمحو هذه الصور … أجهدت نفسي لفعل ذلك فجاء اليمني البشوش الذي التقيته في العمرة … ثم آخر … ثم حكم و دروس الشيخ الزنداني … ثم بدأت صورة اليمن الأصلية تتجلى : أرض البركات و الكرامات والرحمات … هنا أصل العرب و هنا حكمت بلقيس على سبأ … اليمن، اشتقت من الإيمان و من الأمانة و من اليمين و من اليمن “بضم الياء” … اليمن أحب أسماء بلدان العالم إلى قلبي لإحتوائه على كل حروف إسمي … اليمن، بلاد زرقاء اليمامة و امرؤ القيس وأبو موسى الأشعري و أسماء بنت عميس … بلاد شاعر الرسول حسان وملك العرب نعمان و خطيب الدنيا سحبان … بلاد الشوكاني و الكوكباني و الخولاني … ويحمل إسمها الركن اليماني أحد أركان الكعبة المشرفة … من اليمن قبيلة جرهم أول من سكن مكة، و من اليمن الأوس و الخزرج أول المسلمين، و من اليمن تزوج سيدنا إسماعيل ومن نسله جاء الرسول الأمين … هذا ما طوى عنه الزمان قبل أن يحكم اليمن السماسرة و الأقزام و يحتلها البريطان ثم يحولها علي عبد الله صالح الجبان إلى أفقر البلدان وأكثرها تسلحا وتبعية للأمريكان … فرجعت فجأة صورة الجماعات المسلحة والحرب على الإرهاب والصور القاتمة التي رسمها الإعلام بدقة متناهية بأن الإنسان العربي الصحراوي هو إنسان متخلف متسخ يرعى الإبل ويحمل السلاح ويعيش في جهنم الدنيا يسبح و يصلي ليل نهار للفوز بجنة الآخرة، وامرأته في خيمة تحضر له الطعام وتلد له الأولاد … اليمن ليست كذلك يا إعلام … اليمن أكبر من ذاك بكثير، كيف أن تكون كذلك وقد قال عنها أفضل الخلق بعد نزول سورة النصر : آتاكم أهل اليمن هم أرق الناس قلوبا، الإيمان يماني و الحكمة يمانية … ومن الحكمة أن يسافر الإنسان ليعرف الحقائق و البرهان … و من الإيمان أن يؤمن المرء بكل مل أخبر به الصادق الأمين … بأن في اليمن بركة لعلي أنالها
ظننت أن الجو حار جداً في اليمن فخاب ظني … وظننت أن المرأة اليمنية منقبة لا تخرج من البيت فوجدتها قطعت أشواطا بالمقارنة مع ما يصطلح عليه ب”السعودية” : تسوق السيارة في شوارع صنعاء المكتضة، بل إن أحد شعاراتها خلال الثورة كان “صوت المرأة ثورة، وسكوت الرجل عورة” … لم يخب ظني في شيء واحد وهو الفقر المنتشر بشكل رهيب في اليمن، فقر الشوارع أكبر مما يمكن أن يتصوره بشر. الإحصائيات تقول بأن نصف سكان اليمن يعيشون تحت عتبة الفقر … لو كانت اليمن في أقصى الأرض لوجدت لهذه الأمة عذرا، ولكن أن تكون حدودها مع مملكة آل سعود التي تنام على أكبر إحتياطي عالمي للنفط ويستمع أثريائها ببناء الأبراج والمولات وتبذير الأموال في سواحل إسبانيا ومحلات أزياء باريس ومراقص مراكش وأگادير هو شيء مخزي فعلا … لا أظن والله أعلم أن خدمة الحرمين الشريفين وتوزيع المصاحف وماء زم زم على الحاج والمعتمر ستشفع لأول قوة مالية عربية موت المسلمين جوعا في بلدان الجوار : اليمن أولا ثم الصومال ثم دجيبوتي ثم إريثيريا والأقرب فالأقرب … حديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضح جداً في المسألة : لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من أن يراق دم امرئ مسلم … والله أعلم