إن علاقاتنا بالناس من حولنا تظلُّ متغيرة متفاوتة، فمنهم من ينزلون في قلوبنا منازل كبيرة، وينفذون إلى أعماق فينا بعيدة، فيُغيّرون فينا أشياء كثيرة، ويُضفي وجودهم في حياتنا معانيَ جميلة، ومنهم مَن ليس أكثر من مجرد رقمٍ يَمرُّ في حياتنا، ولا نستشعر لفراقهم أثرا ولا فقداً، بل ربما كان رحيلهم مَدعاةً للطمأنينة والارتياح، وتلك علاقتنا بالمدن والبلدان أيضا، فما قيل عن هذه يقال عن تلك. ومدينة ريشيكيش من المدن التي تسكنك قبل أن تسكنها، ولذلك تأبى فراقها، وتتحسر على مغادرتها، بعد أن تشعر أنها تثري شخصيتك، وتُحسّن إدراكك لذاتك وللحياة على وجه العموم، تغادرها وأنت متيقنٌ أنك لستَ كما دخلتها.
يحج الكثيرون من كل بلدان العالم إلى هذه المدينة بحثاً عن ذواتهم، وطلباً لمعنىً لحياتهم، يتركون بلدانهم التي ترعرعوا فيها، وأكلوا من خيراتها، واستنشقوا نسيمها، وألِفوا طقسها وظروفها، لكي ينعموا ببعض الشهور، وربما لكي يعيشوا ما تبقى من حياتهم، في عاصمة اليوغا العالمية، وإحدى المدن الهندوسية المقدسة، والباب الذي ُيوصلك إلى جبال الهيمالايا، مدينة ريشيكيش. نعم، الناس قد أرهقتهم الرأسمالية، وضاقوا ذرعاً بنمط الحياة الذي يُفرض عليهم، لم يعودوا يُطيقون أن يكونوا مجرد آلات للإنتاج والاستهلاك في عالم لا يؤمن إلا بالمادة ودفع الضرائب. الحياة الرتيبة المحددة من قوى أعلى لم تعد مقبولة لديهم، أصبحوا يبحثون عن أشياء سامية ومتعالية تُخرجهم من دائرة هذا الأسر الذي شوّه إنسانيتهم. وفي مدينة ريشيكيش يجدون بُغيتهم، فيأتون إليها للانغماس في روحانيات الهندوسية، ولكي يتعلموا كيف يتحكمون في أجسامهم وأذهانهم من خلال تقنية اليوغا والتأمل.
وفي زيارة لي إلى هذه المدينة، حاولتُ أن أستكشف ما الذي يأتي بالناس إلى هذه المدينة، خاصة من دول أوروبية وأمريكية، وكيف يرون هذه المدينة، ولأجل هذا حاورت مجموعة من الأشخاص حول هذه القضية، وقد نشرتُ في مقال سابق الحوار الأول مع بابا هندوسي، وهذا المقال سأخصصه لحوارين الأول مع زوج نرويجيين، والثاني مع مواطنة فرنسية، وتفاصيلهما فيما يأتي:
الحوار الأول :
– مساؤكم سعيد، كريستيان وشيابمان. أعرف أنكم أتيتُم من أوسلو لزيارة الهند، وأنتم هنا لمدة 6 أسابيع، أريد أن أسألكما، لماذا الهند بالضبط؟
-في الواقع، ليست هذه المرة الأولى التي نزور فيها هذا البلد، لقد زرنا الهند لعدة مرات سابقا، لأسباب كثيرة، منها أنني كنت أستاذا جامعيا في تقنيات النانو، وخطر لي مرة سؤال: “أين تذهب المادة؟”
في تخصصنا حيز المادة يتقلص باستمرار، لكن السؤال: إلى أين يا ترى سيصل؟ فـلاحَ لي أن الهند هي أنسب مكان لبداية البحث من الجهة المعاكسة، حيث المادة تختفي تماما… كان هذا، إذن، من الأسباب الرئيسة لمجيئي إلى هنا.
مقالات مرتبطة
– من خلال الأيام القليلة التي قضيتُها هنا، لاحظتُ أن اليوغا من أكثر الطقوس التي يمارسها الناس هنا، هل يمكن أن يشرح لي أحدكما اليوغا في بضعِ كلمات دالّات؟
– نعم، اليوغا، باختصار، وسيلة مهمة في الحفاظ على وعينا بجسدنا أساساً، فكلما تقدمنا في السن تبلد إحساس الجسد، وفترت حيويته، ولكن بالإمكان تجنب هذا باليوغا، فهي تساعد أعضاءنا على الحفاظ على حيويتها واشتغالها الجيد، وفي الوقت ذاته تساعدنا على تطوير إدراكاتنا. فإنضاج العقل يتطلب وقتا طويلا، واللياقة البدنية التي توفرها اليوغا تعطينا وقتا أطول، قصد الاشتغال على وعينا والوصول إلى التنوير تدريجيا. فإذا نحن نجحنا في ذلك سوف نحس بنعم الحياة، وليس فقط بمحنها، باعتبار أن من أكبر مشكلات الناس اليوم أنهم لا يستشعرون النعم، ولذلك لا يقدرونها حق قدرها، بخلاف المحن والمصائب فإنهم أكثر شكوى كلما ألمت بهم مُلمّة، مهما كانت حقيرة ويسيرة. إن اليوغا تخرجك من السجن الذي تعلقتْ به وفيه نفسُك، وتحررك من سجن أنماط التفكير السلبية. والحقيقة التي أصبحت بارزة اليوم أن البشر دخلوا مرحلة جديدة في تطورهم وفي وعيهم بذاتهم، فالعديد منهم بدؤوا يدركون أن المعبد في داخلهم، وعليهم أن يتوجهوا إليه لا إلى غيره.
– أول ما يلاحظه القادم إلى الهند لأول مرة، تنوعُ الديانات والثقافات والمعتقدات، ومن الطبيعي أن يتساءل عن السبب وراء احتضان الهند لكل هذا التنوع، خاصة إذا استحضرنا أنه في بلدان أخرى يعاني الناس من التمييز والصراعات الإثنية. في نظركم، كيف استطاعت الهند تلقين العالم هذا الدرس في التعايش والتسامح؟
– سؤال كبير، لكن يبدو أن هذا التسامح أسهمت فيه أساطير “الفيداز” [وهو مرجع عقيدتهم]، فهي غنية جدا بالأحداث والشخصيات، وكلٌّ له اسمه الخاص، فالشمس إله، والشجر والحجر والماء كلها حية، ولا شيء فيها جامد كليا، مما مكّن الأشخاص لاحقا من تغييرها وتكييفها. والهند دولة غنية بالآلهة، فقد اكتشفتُ منذ سنوات أن هناك 300.000 إلها في الهند، وأنت تستطيع أن تتخذ إلها جديدا متى احتجت إليه، معنى ذلك أن التدين له طابع فردي، وإن كان في العمق جمعيّا متحداً، وهذا يحمل الناس على القبول بالاختلاف والتنوع. والذي يبدو لي أن كل الألوان والتوجهات العقائدية تصب في تأكيد شيء واحد: البعض هو الكل، فإن “أتمان”، “ماهاتميا”، “براهمان”…، كلها أسماء مختلفة، ولكن المسمى في العمق واحد. ذلك أن الأهم هي الفكرة، وإن اختلفت تطبيقاتها في واقع الأمر.
– القدوم إلى الهند من دولة مختلفة، وخاصة من دولة أوروبية، قد يكون محفوفا بالمخاطر، ما الذي تبحث عنه بالضبط، ويحملك على المغامرة والمخاطرة، فهل هو السعادة كما أخبرني عدد من الزوار هنا؟
– ظاهريا، لا شك أن السعادة شيء مهم لنا بوصفنا بشرا يشعرون ويدركون، ونحن نبحث عنها دوماً. ولكني أعتقد جازما أن السعادة الحقيقية تنبع من الداخل، وما من جدوى في البحث عنها في الخارج. والسعادة ليستْ شيئاً متحكماً فيه، ليست قراراً نتخذه أو نُلغيه، هي شيء يحدث لك من تلقاء نفسه، قد يتكرر في حالات بعينها، وربما تحسها كنوع من الذبذبات، قد تكون رقيقة ولطيفة ومنسابة، وقد تكون مندفعة قوية. غير أنه من الواضح أن هناك شيئا ما يجمعنا، هو كوننا نريد ونرغب في أن نكون سعداء، وهذا ما علمتْنا وتُعلمنا إياه الهند، وهذا يجيب عن سؤالك لماذا أتيت إلى الهند، إنه البحث عن السعادة بوصفها اطمئنانا نفسيا وروحيا بالأساس، لا كما تحاول الرأسمالية أن تقنعنا به.
– طيب، الدافع والباعث إذن هو البحث عن السعادة الروحية. وهذا يجرني إلى أن أسألك سؤالا آخر في هذا الصدد: ما هي أمنيتك الكبرى في الحياة؟
-ما دمنا نتحدث عن السعادة، من أكبر الأمنيات التي أرجو أن تتحقق هو أن يكتشف أكبر قدر ممكن من الناس هذا المفهوم للسعادة، ويكفوا عن أن يكونوا عبيدا باختيارهم للمادة والطمع والجشع الذي يدمرهم، ويُرهق أرواحهم، أن يتوقفوا عن كنز الأموال التي لن يحتاجوا إليها، وعوضا عن ذلك أن يعتنوا بأنفسهم وأرواحهم أكثر، وأن يعرفوا أن السعادة الحقيقية ليست في اللهث وراء المال والأشياء، وأن يكتشفوا الغنى في أرواحهم، لا في حساباتهم البنكية، أن يكونوا أكثر رحمة وشفقة بإخوانهم وبالطبيعة كلها بما فيها من حيوانات وجمادات، هذا حلم وأمنية كبيرة.
الحوار الثاني
هذا الحوار كان مع مواطنة فرنسية، تأتي إلى الهند بشكل اعتيادي، وتقضي جزءا كبيرا من حياتها هنا، حاولتُ أن أعرف ما الذي دفعها إلى اختيار هذا النمط من العيش، وكما ستلاحظ أيها القارئ الكريم، فإن الهاجس الذي يدفع هؤلاء الزوار جميعا هو الفراغ الروحي والرتابة القاتلة للحياة التي يعيشونها في بلادهم. وإليك الحوار مفصلا:
– ذكرتِ لي أنك قررت منذ خمس سنوات أن تقضي أكبر وقت ممكن في هذه المدينة، هلا حكيت لنا ما الذي دفعك إلى اتخاذ قرار مصيري كهذا؟
– في الواقع، أنا لم أتخذ القرار في البداية، فقد جئتُ مع والديّ لزيارتها حين كنتُ في الثانية عشرة سنة، وعدتُ إليها مرة أخرى لما كنت بسن الخامسة عشرة مع أمي. ثم بعد ذلك حصلت تغيرات كثيرة، حيث لم أعد أستطيع التأقلم مع حياة الثانوية في أوروبا. كانت فترة عصيبة في حياتي، توجّب علي خلالها التكيف ولو قليلا مع مجتمع أرفضه. وفي السنة اللاحقة، لم أجد بدّاً من التطوع في أعمال خيرية، نعم كانت تجربةً معقدة؛ ذلك أنني لا أحب التواجد على الانترنت كثيراً، ثم لاح لي أن علي التحلي بالشجاعة والقدوم إلى الهند، ومنذ تلك السنة وأنا أزور الهند كل سنة.
– قلتِ: إنك لم تتمكني من التكيف مع المجتمع الفرنسي، وإنك تفضلين العيش هنا، لهذا تقومين بهذه الزيارات المتكررة إلى الهند. لكن، ما الذي ضايقك في مجتمعك الأصلي؟
– الشعور بأن حريتي تُسلبُ مني، أنني لستُ حرة، وأن علي العودةَ إلى الدراسة بالثانوية، وقضاء فترة غير يسيرة من عمري في تعلم دروس لا تهمني، وأن أقضي زهرة عمري وسط أناس لا يجمعني بهم شيء، لم أكن أجد معنى في ذلك. الشعور بكون حريتي تُسلَب كان يخنقني، ومعرفة أن علي فعل شيء ما، فقط لنيل شهادة الباكلوريا، يُغضبني بشدة. كنتُ أعرف أنني لا أحتاج إلى ذلك كله، ولماذا سأفعل شيئا، أنا متأكدة أنني لستُ بحاجة إليه، رغما عني؟
– هي الحرية إذن، الرغبة في الشعور بالحرية والاختيار في نمط الحياة التي تعيشين. طيب، أرى أنك ترتدين ملابس كتلك التي يرتديها الناس هنا في المعابد، ورجلاك حافيتان تماما، وأنت تأكلين أكلا من الزراعة العضوية، فهل هذا نمط حياة اخترته، أم هو الرغبة في الانصهار في الجماعة؟
– المشي حافية القدمين هو نمط حياة يعتمد على العيش ببساطة، فلا هاتف ولا حاسوب، هو قرار شخصي، وإرادة ذاتية. الابتعاد عن حياة البهرجة، فلا أشتري إلا ما آكُل، ما أحتاج إليه حقا. لا أحب كل هذا النظام العالمي السائد اليوم، والذي يدور كله حول المال، رحاه لا تدور إلا بالمال وحول المال، أحاول قدر المستطاع ألا أضع مالي في هذه الآلة، فلا أساعد على تدويرها أكثر، ولا حتى بالذهاب للعمل داخلها. أفضّل حياة بسيطة، أكون فيها حرة في فعل ما يحلو لي كل يوم، بدَل أن أحصل على أدواتِ الرخاء المادي التي لا أحتاجها أصلا، ومن ثم فلا أُضطر إلى الذهاب إلى العمل كل يوم.
-قلتِ: إنك لا تتوفرين على هاتف ولا حاسوب، فهل أنت في فرنسا أيضا لا تتوفرين على هاتف، ولا تستقبلين رسائل بريدية وما أشبه ذلك؟
– في الواقع، لدي بريد إلكتروني، أرسل فيه رسائل لأمي مرة أو مرتين في الشهر. وأما حين أكون في فرنسا فالأمر يختلف قليلا، قد أهدتني أمي هاتفا قديما، من تلك الهواتف التي لا تقهر، تلك التي تستطيع ضربها مع الأرض أو وضعها في آلة غسل الملابس دون أن تخشى على إتلافها! ألقي عليه نظرة كل ثلاثة أيام، وبما أنني أتنقل كثيرا في فرنسا فإنه يفيدني بلا شك، وإلا فأنا لا أستعمله إلا للحاجة.
– هل تعتقدين أنه يمكنكِ الاستمرار في هذا النمط من العيش؟ بمعنى آخر، كيف ترين حياتك في المستقبل، بعد 10، 15 أو 20 سنة؟ هل تعتزمين البقاء هنا أم ستعودين إلى فرنسا وتعيشين فيها كما يعيش الفرنسيون؟
– العيش كما يعيش الفرنسيون، لا، لا رغبة لي في ذلك أبدا، ولا فائدة منه أصلا. أحاول أن أجد مكانا طبيعيا هادئا، حيث يوجد الكثير من الفواكه وكوخ صغير وحديقة، مكان أرجع إليه وأستقر فيه في فرنسا أو غيرها، لا يهم البلد، فقط مكان أستطيع فيه العيش في الطبيعة ومواجهتها قليلا، بالزراعة والاعتناء بها في هدوء واطمئنان.
– هل هذه هي السعادة بالنسبة لك؟ عيش بسيط وسط الطبيعة والشعور بالحرية والاختيار؟
– معنى السعادة؟ لا أدري هل تعني بالسعادة ذلك الشعور الذي يغمرنا حين نقتني شيئا ما، والذي يزول بسرعة، ولا يدوم أكثر من خمس أو عشر دقائق، أو يوم كامل في أحسن الأحول. أم أنك تقصد تلك السعادة الغير المشروطة التي نشعر باستمرارها، والتي قد يكون لها سبب وقد لا يكون، لا يؤثر فيها ما يحدث لنا، إنْ شرا كان أم خيرا، فلا تتغير سعادتنا بالظروف الخارجية المحيطة، كتلك السعادة التي يتمتع بها الرُّضَّع! السعادة بالنسبة لي لا ينبغي أن ترتبط بشيء خارج عن الذات.
إن السعادة التي تشعر بها حين تحب أحدَهم، مثلا، لا يعوَّل عليها، لأن احتمال فقدانه أو فراقه قائمة بشكل مستمر، ولا يجب أن نربط سعادتنا بشيء يمكن فقدانه في أية لحظة. إن السعادة الحقيقة هي التي يمكن أن تتمتع بها في كل الأحوال. يجب أن تكون شيئا يتعالى عن الظروف الخارجية، وتستطيع الشعور بها مهما كانت الظروف. وحين تنجح في هذا فأنت تستطيع حينها أن تسعد بكل ما تأتيك به الحياة، وتتقبله كما كان، لأنك تدرك أن العمر قصير، وتضييعه في الندم على أشياء معينة قرار غير حكيم، تقرر أن تعيش ممتنا شاكرا لظروفك وحياتك، وتحاول البحث عن نفسك، لا أكثر، والسعادة في أن تجد نفسك بالأساس.
– تتحدثين من منطلق ذاتي، وطرحك هذا قد يصدق على الأغنياء الذين بإمكانهم الاعتماد على إمكاناتهم الذاتية، ولا يحتاجون إلى الانخراط في سوق الشغل، ماذا عن الفقراء؟
– الفقر؟ أعتقد أننا لم ندرك معنى الغنى الحقيقي، فلا يمكن أن نكون فقراء لو غيرنا منظورنا للحياة، فحين يكون لديك إدراك صحيح لمعنى الغنى، وأنت راضٍ بما تملك، لن تهتم بكون ما تملك كثيرا أو قليلا، ذلك تفصيل لا يعني شيئا؛ ولك أن تنظر إلى الزهاد الذين يعيشون في هذه المنطقة في ريشيكش، إنهم لا يملكون شيئا، وهم فقراء بمنظورنا الرأسمالي، والزوار القادمون إلى الهند سيعتبرونهم في قمة الفقر، لكني أجدهم أغنياء جدا، رغم أنهم لا يمتلكون شيئا. فالغنى غير ما نتصور، والغنى الذي يسلبك حياتك هو فقر، الكثير من الناس أصبحوا عبيدا لما يملكون من ثروات، يعملون ليلاً ونهارا في سبيل تنميتها، وحياتهم تذهب سدى من غير معنى.
– اخترتِ المكوث هنا في مدينة ريشيكيش، فكيف وجدتِ هذه المدينة؟
– أهم ما يميز هذه المدينة أنها تنعم بالسلام التام، تأتي إليها وأنت في حالة من التهيج الذهني المتذبذب فتطهّرك، تحس في أيامك الأولى وكأنك تتخلص من السموم حقيقةً، تتطهر جسديا وعقليا. من خلال تجربتي الشخصية، بغض النظر عن كم من المشاغل التي كنتُ أترُك خلفي، حين أصل إليها أجد السلام الداخلي، تمنحني التركيز والهدوء، والشعور بالاستقرار والسلام الداخليين.
– من أهم الطقوس التي تمارسين هي اليوغا، فماذا غيرت اليوغا في حياتك؟
– أظن أن اليوغا هي رحلتي من الجهل إلى الوعي، حقا لا أصدق أنني قلتُ هذا، هذه جملة تلخص فعلا كل ما يخالجني في علاقتي باليوغا، هي تلخص رحلتي من الجهل وقلة الفهم إلى الوعي التام بذاتي.
-جميل، وهل تطلبت هذه الرحلة من الجهل إلى الوعي وقتا طويلا؟
– إنها بحسب الشخص، قد تطول و قد تقصر، ذلك يعتمد على طبيعة كل شخص، ومدى غفلته، وصعوبة أحواله النفسية والروحية، واستعداده للالتزام والكفاح من أجل الوصول إلى ما يسعده في حياته.
– ذكرتِ أن أهم ما منحتك إياه هذه التأملات الوعي، لكن الوعي بماذا؟
– الوعي هكذا، يصعب شرحُه، الوعي بالروح، الوعي الشمولي، الوعي بهويتنا وبذواتنا الحقيقية.
– الوعي بالهوية الحقيقية، بمعنى ماذا؟ هل أجبتِ عن السؤال: من نحن؟!
– هذا سؤال فلسفي في عمقه، من نحن؟ من نحن بغض النظر عن أسمائنا وعن أجسامنا؟ لا أزعم أنني أملك الإجابة، لكن الذي أستطيع قوله أن هذا السؤال يجب أن يجيب عليه كلُّ فرد في علاقته بذاته وتجربته، لا يمكن تقديم أجوبة عامة تصلُح لكل الناس، هذه تجارب شخصية يجب أن يخوضها الفرد بنفسه إن هو أراد حقا أن يُدرك شيئا. أما الفلسفات النظرية حفلا تفيد في مثل هذه الأسئلة، وحتى الذي يُدرك شيئا سيَصعب عليه أن يَنقله إلى الآخرين. أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يحثَّهم على البحث والتجربة وخوض المعركة بأنفسهم، لأن هذه المهمة لها اعتبار شخصي، لا يُمكن أن تُنيب غيرَك في القيام بها، ولا يُمكن نقل نتائج تجارب الآخرين وإسقاطها على الذات. إنه واجب على كل واحد منا أن يجد “من يكون”؟ ومن إكرام المرءِ لذاته أن لا يُوكِّل إيجادَها للآخرين.