تكبر معنا أحلام منذ صغرنا، فمنّا من يريد الوصول إلى القمر ومنّا من يريد إيجاد علاج لمرض السرطان، ومنّا من يريد السفر عبر العالم. أمّا أنا فكنت أحلم دائماً ببناء دار للأيتام -طبعا إلى جانب أحلام أخرى-. ليس لأنّني يتيمة، ولا لأنني لدي علاقة بأي يتيم كي أقول إنني تأثرت، لكنّني أذكر آية من كتاب الله، كنت أسمعها تتردّد مُنذ صغري: “فَأَمّا اليتيم فلا تقهر”.
في صيف العام الماضي، شاركت مع مجموعة من الزملاء في رحلة إلى دولة السينغال في إطار التعليم الطبي واستكشاف النظام الصحي في الدول النامية، قضينا معظم الوقت بين المستشفيات ودور الأبحاث والجامعات العلمية، وخصّصنا باقي الوقت لزيارة بعض المعالم التاريخية ومعرفة المزيد عن الثقافة السنغالية.
![]()

كان ضمن جدول العمل أن نذهب لزيارة دار الأيتام المتواجد في المنطقة التي استقرينا فيها، تحمست كثيرا لهذه الزيارة، فلطالما كنت أريد زيارة الأطفال اليتامى. كان الميتم مجزءا حسب السن، وكان هنالك من الأطفال الذين فقدوا أمّهاتهم عند الولادة والذين فقدوا الوالدين معاً، والمتخلى عنهم.
كان الأطفال في ذلك الميتم متعطّشين للأحضان والعطف والحنان، كجميع أطفال العالم، يلّوحون بذراعيهم النحيفة إلينا كي نحملهم ونحضنهم ونلعب معهم. حملت واحدة منهم بين ذراعي لأنها كانت تَبكي، كان بكاؤها كافيا للفت انتباهي. عانقتني بلهفة، تماما كما أعانق والدتي بعد غياب طويل. لا تدري الصغيرة ذات السنتين تقريباً أنني ارتويت من ذلك الحضن البريء مثلها أو أكثر. لم أستطع رؤية وجهها جيدا في البداية لأنها خبّأته في صدري.. سرعان ما حملتها. شعرت بحرارة جسدها المرتفعة وسألت فورًا عن ميزان الحرارة: “حرارة الصغيرة مرتفعة!” صرختُ مُلتفةً إلى السيّدة المُشرفة عن ذلك الجناح من الميتم. لا أعرف ما الذي كان يُحرّك داخلي في تلك اللحظة، أهو حسّ المهنة النبيلة وإنقاذ الأرواح، أم حسّ الأمومة المسبق لدي والبارز دائماً حينما يتواجد طفل في الموقف، أم هو فقط حسّ الإنسانية التي نتشاركها مع كلّ البشر؟ بغض النظر عن الدافع، طلبتُ ميزان الحرارة، الطفلةُ تحترق! كان برود تلك السيّدة المُشرفة بحجم حرارة جسد الطفلة، أجابتني: “لا داعي للميزان، فحرارة الطفلة مرتفعة منذ أمس ولم تتوقف عن البكاء هكذا”. حاولت أن أشرح لها أن الحرارة المرتفعة أمر غير عادي، ويدل على أن جسد الصغيرة يقاوم شيئا ما تطفّل على نظامه، لهذا السبب لا تكفُّ عن البكاء. الاَن وأنا أكتب هذه السطور التي لا تُنسى، أشعر أنني رُبّما كنت قد تجاوزتُ حدودي، كنت فقط أزور الأطفال في ذلك الميتم، ولَم آتي بوزرة بيضاء وميزان الحرارة، ولا لكي ألقي محاضرة عن رعاية الأطفال، كانت مجرّد زيارة. “ولكن آنذاك لم يكن لدي وقت لكي أفكر في حدودي، فأنا في النهاية إنسانة وطالبة طب وفي داخلي أمٌّ تخاف على صغارها، لم أستطع التحكّم في كل هذه الدوافع، فلتَعذرني المُشرفةُ.” “يجب أن تُعرض على طبيب، هل نستطيع أخذها إلى المُستعجلات؟” سألتُ المُشرفة مُتوسِّلةً. ردّت علي بابتسامة لم أستطع إيجاد مكان لها في ذلك الموقف: “لا داعي للطبيب، سوف نعطيها خافضا للحرارة وستتحسّن.” نظرتُ إلى الصغيرة (كان اسمها فاتو) والحرب قائمة في رأسي: هل هكذا تعيشين حلقات مرضك منذ ولادتك يا جميلة؟ مُهملة، وحيدة، محْرومة من الحنان والحضن الدافئ والاهتمام وقُبَل الجبين والوجنتين واليدين، وكل ما كنت أتلقّاه عندما كنت في سنّك! وأشعر بأضعافه في أيام مرضي!
سيطرت على ذهني تساؤلات كثيرة وتسرّبت عبر عروقي إلى قلبي واشتدّ الوجع. وضعتُ رأس الصغيرة على صدري وحضنتها بشدة، وحاولتُ امتصاص بعض من حرارة جسدها، في انتظار خافض للحرارة. وبدأت أردد لها بعض الأغاني التي كانت تنشدها أُمِّي عندما لا نستطيع النوم من شدة المرض.
كانت تنام كالملاك لبضعة دقائق وتستيقظ باكية من جديد، لم يكن بوسعي سوى الغناء في أذنها والدعاء أن يأتي خافض الحرارة قبل فوات الأوان.
بعد تجربتي القصيرة مع فاتو، عرفت كيف يكون وجع اليُتم، وفهمت معنى تلك الآية العظيمة التي جعلتني أفكر في بناء دار للأيتام في سنٍ مبكرٍ، وخَتَمْتُ على حُلم بناء دار للأيتام في لائحة أحلامي بخِتم أحمر عريض: “سيَتحقّق!”.