أزمة الإنستغرام

في السنوات الأخيرة، اتخذت وسائل التواصل الاجتماعي مجرى آخرا غير مجرى التواصل، مجراً غريباً لا يُشبهنا في شيء. انحرفت عن مسارها وتاهت عن غاياتها الهادفة في نشر المعلومة وتقريب المسافات. صارت بالأحرى وسائل للتبرّج الاجتماعي، أفقدت البيوت حُرماتها وتسللت عدساتها خلف الأبواب. جعلت من العالم مهرجاناً كبيرا ومن الناس بهلوانات تُسلي بعضها البعض بطرق غير مشروعة.

تدهورت القيم الإنسانية وتأثرت جدًا من هذا التحوّل في التوجه التواصلي. لم يعد الناس يبحثون عن أخبار العالم بموضوعية ولم يعد التركيز يخص المعلومة فقط، بل صار التركيز على تفاصيل مُنتهكة كانت في الماضي مكرّمة في ذمة الستر والخصوصية. إنّ مثل هذه التفاصيل اليوم تفرض نفسها عليك في كل مكان وزمان وتتبعك حتى وإن لم ترغب بمعرفتها، مثل البلاء تجدك لنفسها فجوة وتُصيبك بلعنتها.

أصبحت الأنفس متعطشة لما لا ينفعها ولا يخصها في شيء. أصبح الهوس بأمور الناس وأحوالهم هيستيريًا. نجد أنفسنا نتابع أخبارهم اليومية بإخلاص وتفانٍ دون أن نشعر، ماذا كان فطورهم وأين قضوا يومهم ومن أين اشتروا كنبة بيتهم الجديدة وما هي ماركة قميصهم. ندمن على متابعة روتين أغرابٍ تُقربهم لنا وسائل التواصل الاجتماعي، يعرضون علينا كل ما لديهم عبر شاشة الهاتف ويصطنعون ما ليس لديهم أيضا، بغرض المشاركة و”التأثير” كما يقولون. يصنعون لنا محتوى يوميا من حياتهم الخاصة ويُتاجرون بها بنكهات مختلفة ومقادير جاهزة. نعيش أفراحهم وأحزانهم وأسفارهم ومرضهم ومشاكلهم ومشاكل أهاليهم دون أن ندرك ثقل هذا الحمل الزائد على أنفسنا. نترقب وننتظر ونتحمس وكأن أمورهم دخلت في أمورنا وصارت منها. إنّ مجرد استيعاب هذا الأمر ومدى تأثيره على طبقات الوعي النفسي مُرهق وثقيل.

أصبح الواحد منّا يترك حياته الخاصة على الجانب ويهمل ما فيها من مشاكل وثغرات، ويتجاهل ما فيها من نعم وعطايا جميلة ويغطس رأسه في حياة الآخرين، يجري وراء ألوان ملابسهم ونوعية أوانيهم وهواتفهم وسياراتهم ومدارس أبنائهم ومعروضات كثيرة قد لا تُناسب طريقة ومستوى عيشه، مما يُسبّب للناس انقلابا داخليا وتضاربات تُهيج المقارنات وتُتعب النفس.

مقالات مرتبطة

لن يفهم الجميع أن رحلة الحياة لدى كل شخص تتضمن مراحل ودرجات لا تتشابه، وتشمل منعرجات وصعوبات لا تُعرض لنا على شاشة الهاتف. لا أضمن أن جميع الفئات تستوعب أن عالم الإنستغرام عالم زائف بامتياز والحقيقة فيه غير كاملة وملعوب فيها. إنّه مثل اللوحة الفنية، الرسّام يُروج فيها لما يريد وبالألوان التي يختار والتي تجلب له أكبر عدد من المشاهدين.

إنّ البحث في حيوات الناس الخاصة والنبش في تفاصيل أيامهم غَدَا مهنة موثّقة تورطت معها مهنة الصحافة الشريفة وتلطخت برداءة أدائها ودونية أهدافها. اختلطت الأمور ببعضها ولم تعد هناك قواعد ولا معايير لأي شيء في هذا العالم الافتراضي. صرنا نعيش في سوق أسبوعي، الكل يقدّم ما لديه في أبهى حُلّة والناس تتجولُ حائرة من تشاهد ومن تُصدق ومن أين تقتني المعلومة الصحيحة، على حساب صحتها النفسية ووقتها الضائع في التفاهات وجهدها المهدور في تبادل التعاليق الفارغة.

إنّ الوضع يتفاقم ويزداد قُبحا. بالإضافة إلى الترويج إلى الحياة المثالية والكمالية والمظاهر والعيش المبهرج، تكونت ظاهرة التأثير وصار الكل مؤثرا بين ليلة ونهارها. أصبح هؤلاء “المؤثرون” يناقشون القضايا ويسدون النصائح ويقدمون الآراء في كل المجالات دون أي فقه أو أساس من المعرفة. يجمعون الناس حولهم ويلقون المحاضرات مثل الأساتذة والأخصائيين وأهل العلم. والمعضلة الأكبر أن الناس تركب الموجة وتتأثر فعلا بما يقدمه لها العالم الافتراضي ولا تقدر على التمييز بين الصائب والخاطئ وبين العارف والجاهل الذي يتظاهر بالمعرفة.

إن الأمهات والآباء والجيل الصاعد يتأثرون كلّ يوم بالتفاهة والفراغ الفكري والتلاشي الروحي. يتغدون بالمظاهر والأضواء الزائفة والصور المُفلترة ويشاهدون انحطاط الأخلاق وتقهقر القيَم وخرق الخطوط الحمراء. إنّنا نعيش أزمة إنسانية متعددة الأبعاد بوجهة واحدة وهي الهاوية، لا ندرك ذلك ولكننا نهوي إلى القعر.

إن الوعي بوجود هذه المعضلة الاجتماعية ومدى خطورتها وتأثيرها على الناس هي أولى خطوات النهوض والعزم على عدم السقوط في القعر. يأتي بعدها التصدي للتفاهة والتمييز بين المفيد وغير المفيد، وتقدير الوقت والجهد النفسي ومنحهما لمحتوى ينفع ويرقى بالإنسان. لا أقصد أن أنكر أن هناك منصات في وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة وهادفة، وتوجّه الناس وتوعّي وتنشر المعلومة بطريقة سليمة وراكزة، وتدعم الطاقة الإيجابية والسير نحو الأمام. يجب أن ندعم هذه المنصات ونستفيد من وجودها في العالم الافتراضي، وأن نبتعد عمّا لا ينفع وعن كل ما يدفع بنا نحو القعر.

1xbet casino siteleri bahis siteleri