مغربُ المواقف

أُحدّثكم اليوم عن مغربي، مغرب الهّمة والتكافل والتعاضد. لقد أثبت المغرب في ظل ظرفية الزلزال أنّه شعبٌ عسكريّ بامتياز، حاضر بكل ما لديه من بدن ومال من أجل الوطن. أظهر للعالم بأسره أنه ليس هناك قوةٌ أعظمُ من وضع اليد في اليد والتوحد من أجل هدف سامٍ.

لسنَا الأثرياء عالميا، ولا نتصدّر العالم في أي مجال، ولكِنّنا تفوّقنا في أخلاق التعاون والتضامن والترابط. صرنا بين ليلة وضُحاه جسدا واحدا، تتألّم سائر أعضائه من شدة المرض ولكنّ كل كُرّية في جهازه المناعي مُتجندة للدفاع والحماية. حرّكتنا فطرتُنا الطيبة المبنية على قيم الإسلام وثقافة الشرق ووجدنا أنفسنا في ملحمة ضد الضرر. أخذ كلّ فرد منّا على عاتقه مسؤولية الحضور والمساعدة دون أي طلب أو نداء خارجي، اكتفينا بطبيعتنا السليمة وموروث الأجداد.

تعدّدت مواقف الإنسانية وتنوّعت بذلك الدروس والعِبر التي تستوجب الذكر والتعزيز. ليس من الغريب أن يُساعد القادر ماديا ومعنويا، شيء مُتوقّع ومألوف. ولكنّ المُلفت أن يُساهم المواطن الذي يعيش تحت عتبة الفقر بمؤونة من قلب بيته تعب في توفيرها لأسرته وهم في حاجة ماسّة لها، ولكنه يعي أن غيره في حاجة أمس. إن المُدهش أن تُساهم امرأة بسيطة بخاتمها الذي لا تملك سواه، خلعته من بين أصابعها وأرادت أن تُساهم به كي لا تجوع المناطق التي ضربها الزلزال. وأخرى مُسنة لا تكاد تمشي على رجليها، تهرول مُتكئة على عُكّازها لتُساهم بقنّينة من الزيت، لعلّها تنفعهم في طبخ الأكل. والطفلة اللطيفة التي تبرعت بدُميتها المفضلة للأطفال، تخلت على أعز ما لديها لكي يفرح قلب آخرٌ منكوب.

مقالات مرتبطة

أظهرت كُربة الزلزال أصدق المشاعر وأجملها. اتحد المغاربة من أقسى شمال المملكة إلى جنوبها وبقاع العالم كلّه. تكبّدوا عناء الطريق لإيصال المُساعدات إلى المناطق المتضررة. اجتمعوا وأنفقوا من مالهم ووقتهم وطاقتهم وغامروا بحياتهم وتسلّقوا الجبال عبر طرق وعرة لتقديم المُساندة والعون. حضر كل فرد بخبرته في مجاله للتخفيف من حدة الفاجعة؛ أخص بالذكر الأطباء والممرضين الذين اتجهوا نحو المستشفيات المضغوطة ودعموا شراء المعدات اللازمة للتطبيب. شاهدنا مناظر تعبّر عن أعظم معاني الإيثار الذي يحث عليه ديننا وكأنّ الله يطمئن قلوبنا أنّ الدنيا لا زالت بخير.

لا ننسى الدروس التي لقّنها لنا الطرف المتضرر؛ شاهدنا أُناسا لم يتبقّ لهم شيء بعد الزلزال، فقدوا بيوتهم وأفراد أسرهم ومواشيهم وكل ما كان يشكّل لهم الحياة، ولكنّ إيمانهم بالقضاء والقدر لم يتأثر. لم يتمكن الزلزال من زعزعة عمق ثقتهم بالله. تشعر أن كل واحد منهم مدرسة في الرضا والقناعة والاكتفاء. كلامهم كله موزون ومحكوم، ووجوههم غائرة الحروف يلفّها الحياء والوقار. يغلب على طباعهم الكرم والكرامة التي لا تُغيرها الظروف مهما كانت قاسية ومُهولة. يُقاومون الحزن والهلع ويضحكون ما استطاعوا لذلك سبيلا لأنهم يؤمنون بشدة أنهم دائما تحت رحمة الله، وكأنّ القمم تقربّه شيئا ما إلى السماء.

صحيح أن الزلزال خلّف خسائر بشرية ومادية كبيرة، لكنه أظهر الطيب الذي في داخلنا وردّ روح التآخي والترابط إلى أراضينا. جعلنا نأمن بوجود الخير من جديد، بعدما كان يندثر بين كثرة الشر والفساد. المغربُ اليوم جريح وجرحه يلتئم شيئا فشيئا بأفراد شعبه، هم صفائح الجسد التي تتجمع مكان الجرح حتى يُشفى. سنبقى هُنا إلى أن يعود بلدُنا متألقاً ومُزدهرا من جديد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri