لم يعد لي مقر إلا أن أكتب عن هذه الأسطورة الحية التي انتهيت منها للتو. جملة من المشاعر والأحاسيس المختلطة تجتاحني، وتحرك في ما كان ساكنا منذ زمن، أو على الأرجح منذ ولدت، لكنه كان موجودا. موجودا ساکنا، لو لم يكن كذلك لما حرك في الكثير. لم أعد أنا ما كنت عليه قبل أن أفتح صفحات هذا الكتاب أو حتى قبل أن أندمج مع ما حملته من فكرة قيمة اجتاحت أعماق تفكيري وفؤادي، ليترجم إلى ما تخطه أناملي الآن.
قصة لم تكن في الحسبان أن تؤثر في ألبتة. لا أنكر أنني فتحتها لغرض، غرض التشبع بالأفكار الأساسية التي يحتاجها كل مبتدئ. وكما كنت أردد منذ أيام: إنني أقرأ ككاتبة وليس كقارئة، والقراءة هنا تختلف. لكن، يبدو أن الأمور بدأت تأخذ منعطفا آخر، وسرعان ما أحسست بنفسي أتحول من وضع القارئة الكاتبة إلى القارئة القارئة، المتمعنة والمتأثرة بكل ما تحمله هذه الرواية من كلمات، كل كلمة منها تأخذني إلى عالم آخر.
رواية الدكتور العراقي أحمد خيري العمري، الذي لم أقرأ له من قبل، ولا أعرف حتى إن كان كتب قبلها أم لا. لا يهمني كل هذا بقدر ما يهمني أنه دخل قلبي من بابه الواسع، وكان لما كتبه وقع خاص علي. لماذا كل هذا؟
شيفرة بلال، عنوان بحثك دونما تدري، أن تغوص في أعماقه لأنه يحمل اسم أحد أهم الشخصيات الإسلامية التي غيرت التاريخ. يظل هذا الاسم محفورا في عقل كل مسلم. بلال، ما إن تنطقه حتى يتبادر إلى أذهاننا صوت الأذان، محاولين المزج بين كلماته وذلك الصوت الشجي الذي كان يتحدث عنه الجميع في ذلك العهد، بل حتى وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه “أندى صوت”. وكان مختارا لكي يحمل هذا الشرف طوال حياته، وحتى بعد وفاته بآلاف السنين.
لقد استطاع الكاتب في روايته أن يمزج بين شخصيتين، متباعدتين كل البعد عن بعضهما البعض، لينتج لنا عبرة يمكن أن تخلد إلى الأبد. أعترف أنني كنت أجهل عن هذا الصحابي الجليل، غير بعض المعلومات، كأنه أول من أذن للناس للصلاة، وأنه من السبعة الأوائل الذين أعلنوا إسلامهم. كل هذه التفاصيل، لم أكن أعرها كثيرا من الاهتمام. وكم من الناس يجهلون قصص الأنبياء والصحابة الكرام، التي يجب أن تدرس لكل الأجيال، ويمكن أن نستنبط منها مجموعة من العبر والقيم.
بلال، لا أتحدث هنا عن بلال بن رباح، بل عن بلال الصغير، ذلك الطفل المراهق الذي أصيب بمرض السرطان وهو لم يكمل بعد سنته الرابعة عشر. كانت أمنيته الوحيدة أن يرى والده الذي هجره بعد ولادته بشهور فقط، أخبرته بعد ذلك أمه أنهم يجهزون لفيلم جديد عن شخصية مشهورة اسمه بلال، ليس هذا فقط، بل إن والده أسماه انتسابا لهذا الشخص، بحكم أنه مسلم، رغم أنه لا يعرف في الإسلام شيئا.
قرر بعد ذلك أن يكشف الغطاء، ويرسل بريدا لم يكن ينتظر له جوابا السيناريست هذا الفيلم. “أمجد” الذي لم يتردد قط في أن يخبره عن تفاصيل هذه الشخصية وخبايا قصة بلال الحبشي الذي ولد عبدا مضطهدا وعاش كذلك، لكنه عاش مؤمنا، إيمانه هذا جعله يتخلص من كل القيود، وأهمها تلك الصخرة: “صخرة بلال”، التي كان مالكه أمية يعذبه بها، ورغم ذلك لم يستسلم.
الكل منا في هذا العالم، بلال في داخله، بلال العبد. ليس فقط بلال الصغير من وضعت فوق صدره صخرة التنمر، ثم صخرة السرطان، لاتشيا التي واجهت صخرة العنصرية من طرف مدیر مدرستها، أو حتى أمجد الذي عانى من صخرة الحب الاضطهادي من طرف تلك النيويوركية المستفزة، كريستين الذي كانت تستغل حبه وضعفه.
هنا بيت القصيد، الضعف هو ما يجعلنا نعاني من آلام هذه الصخرة، ضعف الإيمان. لكن ما ميز “بلال بن حمامة” عن هؤلاء الأشخاص ومن سبقهم هو أنه مؤمن بقلبه، ليس ضعيفا مستسلما، وإيمانه تجلى في عبارة “أحد أحد” التي استفزت كبار المشركين في مكة.
الإيمان هو تلك الكلمة التي نحتاجها في حياتنا، لأنها كانت وستكون مفتاح الفرج لأي شخص، الإيمان بالله، بقدراته، بقدراتنا، بطاقتنا، بقلوبنا والإيمان في أننا نستطيع، سيغير فينا الكثير. الإيمان هو ما سيجعل كلا منا يتخلص من صخرة العبودية والخضوع، كما تخلص منها بلال.
الإيمان هو ما سيجعلنا ننتصر على كل من فرض علينا العبودية وننتقم منه. كما انتقم بلال من أمية، بلال الصغير من جون ومن السرطان، لاتشيا من المدير، وأمجد من کریستین، مرددين عبارة “أحد أحد”.
لكل منا أمية يستعبده، استعبادا ليس بالمعنى الحرفي كما في الجاهلية، فهذه الأمية يمكن أن تكون شخصا، فكرة، برنامجا، أو حتى مجموعة. لذلك يجب على كل منا أن ينهج طريق “بلال بن حمامة” لكي يستطيع تكسير قيوده، ويجعل من نفسه ملهما، مؤثرا، مستغلا لقدراته وموهبته كما استغل بلال رضي الله عنه حنجرته في الدعوة إلى الصلاة والدين.
لنفكر في هذه المعاني جيدا، ونجعل من حياتنا ذات قيمة وتأثير. لنغير ما دسوه في قلوبنا من عبودية واستحقار واتباع للشهوات والزائلات لنغير ما زرعوه في أنفسنا من حقد وكراهية، لكي يجعلوا في كل منا “أمية” يعيش ويقتل بلالا في أنفسنا.