بين تدفّق الشغف وحساسية الملل!

هل هي حالات نفسية عابرة تصطدم بتردّدات دورة حياة المزاج؟ وتردّي التّأمّل الشّارد وجها لوجه مع الإحباط؟ أم هي حالة شاذة لضبط وإعادة تدوير بعض المشاعر المختلطة والمت راكمة، بين شد وجذب الوعي واللّاوعي؟ تراودنا على حين غرّة حيث تضعك وجهاً لوجه لمجابهة سخريّة الذات بالذّات. تتسرّب تلك الأسئلة الغريبة حيث يحتار المنطق في استقصائها أو تصنيفها أو حتى البثّ في تشخيصها. إنّه لمن دواعي التّأويل أن نبحث عن منافذ أو مخارج سالمة وآمنة لمثل متاهات التّيه التي تضعنا في هكذا مواقف!

كان للفن دائمًا دور أكثر أهمّية مما يعتقد بعضنا في الأوقات الصّعبة من تاريخ البشرية، فهو يُسهم في خلق مساحة من الحُرّية والاتّساع في خضم الوحدة والعزلة. الحرية التي تتيحها المساحة البيضاء، أو تشكيل الطين أو تجميع المتناقضات في عمل فني تركيبي، ويدرك أهميتها الفنّان نفسه.

يتيح الفن التنقل في العالم بحرية لا يتيحها الواقع في الوقت الحالي، ويهمس الفن للفنّان أن كل شيء ممكن، وأننا ما زلنا نملك السيطرة على عالمنا الخاص وصفحتنا البيضاء. استنادًا إلى معايير متنوّعة هي من صلب الممارسة، أي ضمن سعي الفنّان الدائم إلى التطور وتجاوز ممكناته الذاتية. ولم تكن هذه الحيلة سوى ترويض تأثيري متبادل للمدرَك الازدواجي الدّاخلي/ والخارجي في أفق استيعابه داخل “أشكال رمزية” هي من شروط إلهامه وتجلّ من تجلّياته.

لقد تخلّص من حسّية صامتة لكي يستعيد نفسه كائنًا عاقلًا يدير انفعالاته استنادًا إلى مقتضيات بوادر وعيه وشغفه. فالإنسان جزء من الطبيعة في الظاهر فقط، أما في حقيقته فهو منتج من منتجات التمثيل الرّمزي بكل واجهاته، إنه كائن منتج للمعاني ومستهلك لها؛ حيث يتضوّع الشّغف بعطر الإلهام لينقشع المحجوب، في محاولة لتركيب المعنى على البياض البِكر!

مقالات مرتبطة

القارئ صامت، والمتلقّي صامت. وُجد الفن لكي يوظّف فينا الشعورَ بالجمال. يبحث الإنسان في مختلف تصرّفاته إلى تغذية بعض الأحاسيس والمشاعر التي تختلج صدره، وكلّ شخص -وللنّاس مذاهب فيما يعشقون- له مصادره الأولية والثانوية في تغذية هذه المشاعر، وقد يلجأ من لم يجد منبعًا تعيش عليه مشاعره إلى إهمالها أو التنكّر لها! تجربة صاخبة بالصّمت! وكذلك بقيّة الفنون تتطلب قدرًا كبيرًا من الصّمت الأثيري في التعاطي معها، في الإنصات لها حتى تُسمع صوتها الصّامت. إن لكل ما في الوجود صورته الموحية ولغته المعبّرة ولو بالصّمت العميق. كل شيء في هذا العالم يتكلّم إذا وُفّق بمن يُصغي إليه إصغاءً حقيقيّاً، كل ما في هذا الكون يقول؛ لكن أين من يُنصت؟ بين الفنون صلة وصل متقاربة وإن اختلفت الوسائط.

فتشترك في التعبير عن مضمون واحد، أو توضّح فن من الفنون معنىً أو موضوعًا سبق التعبير عنه بفن آخر، على نحو ما عبّر بيتهوفن عن القيم الإنسانية المطلقة حين حوّل قصيدة شيلرر «نشيد للفرح» إلى لحن «السمفونية التاسعة» التي تُقارن لعالميتها بالموناليزا لدافشني في التصوير، وبالأم الحزينة لميكل أنجلو في النّحت. وقد عقد كانط فقرة حول اجتماع الفنون الجميلة في نتاج واحد، كاجتماع الشعر مع الموسيقى في الغناء، فيكون الفن الجميل عندئذ أكثر فنًّا. وليس أدلّ على القرابة بين الفنون من أن نقول: «هذه اللوحة ناطقة بشعر موزون، وتلك القصيدة لوحة تامة التّلوين، وهذا الرقص موشّح أندلسي، وذلك اللحن كاتدرائية تسبح في الفضاء». إن الفنون تتشابك وتتعانق وتتعاشق، وتكون ثمرتها فهم العالم، والإحساس بالحياة، واستنهاض الذات.

للشّغف والعشق والذّوق والجمال صلاحيات منفتحة على رهان مجبول على مهارة إدراك المسافة الملتبسة الفاصلة بين النّائي والدّاني، كُلّما توغّلت أعمق في متاهات الدّخائل، تعثر عليه خارج ذاته، وأنت تبحث عنه في ذاتك، يعثر عليك رابضاً في مسافته المؤدّية إليك، إلى نقيضك.

ولمقاربة معنى المعنى يصوّر لنا الفيلسوف الفرنسي المعاصر “ميشيل لكروا” في كتابه الرائع «عبادة المشاعر» وهو يحلّل إحدى ظواهر الإنسان المعاصر، ظاهرة اهتمام الإنسان المعاصر بالمشاعر التي تتميز بالانفعاليّة أكثر من الأحاسيس التي لها طابع دائم. مما يجعله في حالة تهييج دائم للحواس.

يُلخّص “ميشيل لكروا” حياة الإنسان المعاصر بأنها تعاني من «اختلال راجع إلى الإفراط في مشاعر الصّدمة والنّقص في مشاعر التأمّل». ويختم الكتاب ببعض الحلول التي قد لا ترقى لمعالجة وافية للمشكلة، لكن تساهم في ترشيد استخدام المشاعر، وأول هذه الحلول: التّأنّي في الاستفادة من الأشياء وعدم العجلة في استهلاكها، فالإنسان الذي يتمهّل في فعل الأشياء يمكنه أن يستخلص العصارة الشّعورية في نفس المكان والزمان، أن يتذوّق من نكهة الحياة ويستفيد من المشاعر النّاعمة للحاضر. إنّه يتعرّض أقل لخطر الإحساس بالإحباط في المساء.

1xbet casino siteleri bahis siteleri