قراءة في كتاب: تكوين العقل العربي لمحمد عابد الجابري
’’تكوين العقل العربي‘‘ قبل أن يكون كتابا هو مشروع حمل محمد عابد الجابري على عاتقه، نقد العقل العربي نقدا موضوعيا إبستيمولوجياً، والمراد بالعقل هنا ليس التصرفات والإيديولوجيا العربية، بل العقل كآلة للتنظير أو طريقة مشتركة في اللاوعي العربي “الإسلامي” يعمل بها عقلنا. وبالتالي، فالثقافة هي أول ما تتضمنه المنظومة المرجعية للتفكير العقلي. لذلك استهل عابد الجابري مشروعه بتحديد مكونات الثقافة العربية على ضوء مقارنتها مع الثقافتين اليونانية والأوروبية، والسبب وراء اختياره لهما، أنهما إلى جانب العقل العربي مارسا الفكر النظري العقلاني مما سمح بظهور العلوم والفلسفة والتشريع بمعزل عن الأساطير والخرافات. فبدأ إذن الجابري بالأحق تاريخياً وهي اليونانية، وأدرج في هذه الفقرة آراء وتصورات مجموعة من الفلاسفة وخطاباتهم، كان المشترك بينهم فيها هو “العقل”؛ منهم من آمن بالعقل الكوني “Logos” كهيراقليطس واعتبره الحياة المؤسسة للعالم وقانونه، أما أناكساجوراس فقد لخص تصوره في العبارة الآتية: ’’إن العقل هو الذي نظم كل شيء وأنه العلة لجميع الأشياء‘‘، هذا وقد أدرج عابد الجابري مجموعة من الفلاسفة وتصوراتهم الأنطولوجية للعقل.
بانتقالنا للثقافة الأوروبية الحديثة، نجد أنها سارت على نفس المنوال، من مالبرانش، مرورا بسبينوزا وصولا إلى هيغل وكانط وديكارت، فكان العقل وقتها هو السبيل لإدراك الأسباب والعادل بين الناس والمتحكم روحا وعملا في الوجود والطبيعة، بغض النظر عن اختلافاتهم -الفلاسفة- ورؤيتهم له. أما الثقافة العربية، فقد أضافت عنصرا مقدسا إلى جانب العقل والطبيعة هو “الله عز وجل”، ثم ربطه -أي العقل- لغةً في القاموس العربي بالسلوك والأخلاق لا إلى الطبيعة وظواهرها كما كان في الثقافة الأوروبية والإغريقية.
إذا تعمقنا في رصد الثقافة العربية “الإسلامية” اتضح لنا من المصطلح، أن الجابري استثنى العصر الجاهلي والإسلامي الأول (صدر الإسلام) لعدم توفرهما على مرجعية مدونة أو معطيات مكتوبة، وما إن بدأ التدوين، حتى بدت الثقافة الإسلامية حاضرة وبقوة كما سيتبين في القسم الثاني من كتابه؛ حيت اعتبر أن اللغة العربية معطى تكويني جوهري في دراسة العقل العربي؛ كونها اللغة التي بواسطتها يفكر العرب، فتطرق في أسطر معدودة عن ازدواجية اللغة بين الشعوب العربية وقواميسها، ليقيس عليها رؤية العرب للعالم بلغتهم الأم -اللغة العربية الفصحى- والواضح أن اللغة العربية كانت الشغل الشاغل في عصر التدوين؛ كونها لغة القرآن والسبيل لمعرفة خباياه، فعمد أمثال الخليل الفراهيدي إلى جمع اللغة وتقعيدها وبالتالي الانتقال بها إلى مستوى -اللغة العالِمة- وكان الأحق ممن تؤخذ عنه اللغة هم الأعراب الأقحاح “البدو”. على هذا النحو، سلك اللغويون طريقهم والنحاة كذلك في بناء صور حسية، وصوتية ومنطقية للغة العربية كانت أشبه بالجامدة، لأنها أخذت عن أصحاب بادية لم يختلطوا بالدخلاء وظلت لغتهم محصورة فيما بينهم.
هذا وقد عمد البلاغيون بدورهم في أواخر عصر التدوين على تكريس النموذج الجاهلي والأعرابي -خصيصا -كمقياس ذوقي يتحكم في النقد البلاغي وإنتاج الشعر على مر عصور تلت هذه الفترة، رافضين خلالها أي جديد أو دخيل على القوالب المصاغة في اللغة نحوا وبلاغة ونقدا، لكل هذه الأسباب، عنون فصله هذا بـ: “الأعرابي صانع العالم العربي”. بدأ بعدها التحليل والخوض في فك شفرات المشروع النقدي الجابري، وبما أن لفظة الإسلام ظلت مرافقة للعقل العربي طوال الفصول السابقة، فقد جاء الوقت ليبرهن الجابري لماذا!
إن بداية التدوين عند العرب جاءت نتيجة تضاربات السنة والشيعة، والحديث يطول في الخلافات بينهما، فالشيعة تفعل والسنة ترد الفعل، والدين بصفة عامة والفقة بصفة خاصة كان الهم الأول والأخير للعرب في فترة بدأ فيها هؤلاء بتقعيد النحو، والبلاغة، والصرف وعلوم اللغة بشكل عام، ليس من أجل اللغة في حد ذاتها، بل لتخدم هذه العلوم الفقه، وتفسر الآيات، وتبرر الصراعات وتقنن سيل التأويلات، -وحسب الجابري- التشريع للماضي. وقد تحدث في صفحات كثيرة عن مجموعة من المصطلحات الفقهية التي ساهمت في بناء ميكانيزمات العقل العربي مستشهدا بكبار علماء اللغة والدين، كالجرجاني والسككي وابن خلدون وغيرهم.
أكثر الفصول إمتاعا في هذا الكتاب هي التي تحدث فيها عن “المعقول الديني” واللامعقول العقلي، ورصد فيها اعتبارا منه أن الأول يحدد المنطلق الإبستيمولوجي المحض للعرب المسلمين كما في الفصول الأولى. إن اللامعقول العقلي هو كل ما كان دخيلا على هذه الأسس، ولكنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة حضر وساهم في العقل العربي مع اختلافه في المنطلقات الأنطولوجية والإبستيمولوجية. وهذا ما دفع الجابري إلى فحص طبقات هذا الموروث القديم بتسميته “العقل المستقيل”، إذ يضم مظاهر الديانات الشبيهة بالإسلام وغيرها ومدى تطبيعها عند العرب المسلمين على مستواها العالِم، والمانوية، والصابئة، والهرمسية والتصوف الهرمسي والأفلاطونية المحدثة. أورد فيها الجابري بدايتها وأصحابها ومدى تأثر الفلاسفة والمفسرين الدينيين بها، كما قارن مجموعة من النصوص الفلسفية وكتب العلوم الطبيعية لإبراز مظاهر التناص المباشر وغير المباشر فيها، هذا فيما يخص التيارات الدينية وما حملته من علوم وفلسفة عالِمة.
أما تنصيب العقل ’’الكوني‘‘ في الإسلام، فقد حضر بظهور ترجمات أرسطو للعربية وتأثرهم بالمنطق الأرسطي في عهد المأمون، هذا الذي خدم العلم والفلسفة في عصره وحرص على ترجمة العديد من كتب أرسطو ومنطقه، وفي هذا الصدد، قال فيه الجابري: ’’لقد استنجد بالعقل الكوني اليوناني ليعزز به المعقول الديني.‘‘ وبتداخل هذين التيارين علاوة على ما قدمه الفرابي والكندي في خطابيهما، نجد الصراع -لا محالة- قائما بين الإيديولوجية السنية ونظامها البياني، والإيديولوجية الشيعية ونظامها العرفاني.
صفوة القول ها هنا، أن عقلنا العربي تأسس على ثلاثة نظم معرفية مستقلة بكيانها وهي:
- البيان: هو البيان العربي من نحو، وفقه وعلم الكلام المقيد بالمجال التداولي الديني -القرآن والسنة-.
- العرفان: هو الموروث الثقافي العربي بصيغته العالمة، والذي تمثل في تأثر العرب بفلسفة الديانة الهرمسية، وهو ثلاثة أنواع (فكر شيعي؛ وعرفان الفلسفة الإسماعيلية، والتصوف، والتفسير الباطني للقرآن؛ إلى جانب علوم التنجيم والطلمسات).
- البرهان: الذي تجسد في المنطق اليوناني الأرسطي بمنهجه القائم على مقدمات عقلية.
من البديهي ملاحظة أن كل نظام مستقل بل ومختلف عن الآخر، فكيف إذاً تبلورت هذه القيم المعرفية في عقلنا؟ لم تتلاحم هذه النظم المعرفية سياسيا وإيديولوجيا لتكوين العقل العربي، بل عانت من صراعات وفروقات وصفها الجابري بـ تصادم ثنائي (مثنى-مثنى) بدأ مع “البيان” و”البرهان” وبصيغة مقربة “الاصطلاح العربي” و”الاصطلاح اليوناني” واستشهد بالمناظرة الشهيرة بين النحوي واللغوي السيرافي، والمنطقي أبي بشر متى، التي أمتعنا بها التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة. ثم رصد التضارب القائم بين “البرهان” و”العرفان” والذي بدأ من عصر التدوين، وتضخم في القرن 4 هـ مع ابن سينا وكتبه التي رد فيها على الفلاسفة المغربيين المتأثرين بأرسطو اعتبارا من أنه مشرقي نهج العرفان -خاصة الهرمسية- في فلسفته.
هذا وقد تناول الجابري هذا الصراع مع الغزالي أيضا الذي انتقد ابن سينا ومعظم الفلاسفة الإسماعيليين والمشرقيين بكتابه “تهافت الفلاسفة” (هذا الكتاب الذي جمع فيه الغزالي بين ظاهر المنطق، ومضمون العرفان الهرمسي مع الحفاظ على البيان) مستشهدا أيضا بأبي سليمان المنطقي عن رسائل إخوان الصفا الخاضعة للفلسفة الهرمسية، قائلا بصددها: ’’إن الفلسفة حق لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق ولكنها ليست من الفلسفة في شيء.‘‘
أما صراع “العرفان” مع “البيان” فجسده الجابري في القطيعة التي حصلت بين الشيعة والمتصوفة، ثم دخولها في إيديولوجيا أهل السنة مشكلين بتصالحهما (البيان السني والعرفان الصوفي) انتصارا على المد العرفاني الشيعي في القرنين 4 و5 هـ.
كانت هذه أبزر مظاهر تكوين العقل العربي وتضارباتها داخل مجال عصر التدوين، ومع انقضاء هذا العصر، وجد العرب حالهم في عصر جمود وركود امتد لفترة طويلة، فما موقع هذه النظم المعرفية من انحطاط العرب؟
انطلق الجابري من السؤال الذي طرح في مجالات مختلفة بصيغ عديدة “لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟” ليرصد لنا البداية الجديدة للعرب وتحدياتها.
استثنى -الجابري- علوم العرفان لأنها كانت -حسب رأيه- علوما أخروية أكثر منها دنيوية، ولم تكن تتوفر على مؤهلات تحقق ما يصبو العلم لتحقيقه. فبدأ بالبيان لكونه معجزة العرب على غرار الفلسفة عند اليونان، وقال إن ما جعل من دائرة البيان تقع في الركود والتقليد هو تطويق البيان بعملية الاجترار التي لازمت الثقافة العربية طوال فترة الركود، والاتباع الذي جعل من المعرفة حكرا على قوم دون غيرهم، فلم يتبق ما يضيفه المجتهدون في الفقه ولا النحاة في النحو ولا أهل البلاغة في اللغة، بالتالي انصرفوا إلى الاختلاف في الرأي والانتصار لفرق على أخرى خاصة بالمناظرات أو علم الجدل، فباتت الثقافة العربية ثقافة اختلاف في الرأي وليست بناء للرأي.
أما علوم البرهان داخل المنظمومة الأرسطية، مكانته عند العرب اختلفت تماما عن مكانته داخل اليونانية والأوروبية؛ إذ كانت الأولى لديها عقلها البياني الخاص الذي ارتبط ارتباطا بالسياسة، وداخل الممارسة العلمية التجريبية سجلت العرب ملامح تقدم علمي استفادت منه النهضة الأوروبية كثيرا، ومن أبرز ممثلي هذا التقدم نجد الخوارزمي وابن الهيثم.
وهكذا خلص الجزء الأول من رباعية نقد العقل العربي للمفكر المغربي محمد عابد الجابري -رحمه الله-. تستحق التفاصيل التي ذكرها الجابري حول هذا الموضوع القراءة، وقد أعجبتني الطريقة التي اشتغل بها على الكتاب؛ لأن المعلومات مركزة جدا وحاضرة بطريقة بسيطة وممنهجة، كما أن الثقافة العربية في حاجة ملحة وماسة إلى إعادة كتابة تاريخيها.
إن المتمعن في خطاب عابد الجابري يجد خلف كل هذه المكونات رسالة مضمرة مفادها أن التنوير قابع في تجديد التراث، وتصحيحه وتقويمه بما في ذلك الإصلاح الديني؛ كون القرآن محور العلوم والمعارف العربية، بل إن الجابري نفسه صرح بأن العقل العربي فقهيٌ بالأساس.
تهدف مشاركة هذا الكتاب بدرجة أولى إلى التعريف بمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وهو الحركة التنويرية التي تؤمن بأن المعرفة والاجتهاد -الديني منه- ما زال ممكننا في عصرنا الحالي ولم يقف عند السلف، وهي بداية الغيث.