رحلة الوجدان في إرواء العطشان

ربما أكون قد كتبت في وقت سابق أن من أحب الأشياء عندي وأقربها إلى قلبي الكتابة عن الأشياء التي تُلهمني، بعد أن خضتها كتجربة شخصية. لكن مع مجيء كورونا منعتنا من ممارسة هواياتنا المفضلة، وأبعدتنا عن الكثير من الأشياء التي كنا نقوم بها لما كانت حياتنا تسير بشكل طبيعي، وعلى رأسها بالنسبة لي السفر إلى أماكن مختلفة، وخوض تجارب جديدة. وقد شاءت الأقدار في الأسبوع الماضي أن أجدد العهد بالسفر داخل المغرب، بعد دعوة كريمة من أحد أصدقائي. وكانت التجربة هذه المرة ذات طابع خاص لأنها متعلقة بمشروع وعمل خيري، اختِير له من الأسماء “مشروع رواء”، لحفر الآبار في المناطق النائية، وإيصال الماء الصالحة للشرب وللري إلى ساكنة المغرب المنسي.

ويأتي هذا المشروع في سياق محاولة تخفيف الآثار السلبية على الناس في هذه المناطق التي تعاني الفقر والجفاف معا. وخاصة بعد فقدان الكثير من أبناء هذه المناطق لمصدر عيشهم ودخلهم بسبب جائحة كورونا، والذين غالبا ما يهاجرون إلى المدن للعمل في القطاعات غير المهيكلة، ويتم التضحية بهم عند أول مشكل يواجه صاحب العمل، من دون أي تعويض لهم عن الفصل من العمل، من دون وجود أي جهة تدافع عن حقوقهم أو تطالب بتسوية وضعيتهم.

والحقيقة أنني لم أكن أنوي الكتابة عن هذه التجربة حين خرجتُ في البداية من مدينة الرباط متوجها إلى دوار تمنصروين ولم يكن يدور في خلدي أن أحكي عن هذه التجربة، لكن مجريات الأحداث وكثرة المشاعر التي عشتها هنا والطاقة الإيجابية التي شُحنت بها، كلها عوامل دفعتني دفعا إلى الكتابة. فبعد أن دعاني صديقي إلى السفر معه في إطار هذا العمل الخيري، لم أكن أفكر إلا في قضاء يومين في قمم جبال أزيلال، بعيدا عن ضوضاء المدينة، واصطحبت معي كتابين أقضي في قراءتهما وقتي بينما ينشغل الجميع بالحفر الذي لا أفقه فيه شيئا. معلوماتي عن حفر الآبار وعن المياه الجوفية وطريقة استخراجها منعدمة تماما، فلا شيء يربطني بهذا المجال. ولذلك لن يكون معيبا إذا أعرضتُ عن القوم وعكفت على قراءة كتاب أو كتابين بحسب ما يسمح به الوقت. ولكن الأمور سارت على خلاف ما توقعت وخططت. وما أكثر ما يكون ما نفكر فيه وما نظنه بعيدا كل البعد عما هو واقع أو سيقع.

وقد جاءت فرصة هذا السفر بعد شهور من العمل المضني خصوصا بعد انتهاء فترة الحجر الصحي. حيث أصبحت منهكا بالفعل من كثرة العمل الذي تزايد بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، وذلك لسببين: أولهما أن الناس في فترة الحجر الصحي أهملوا صحتهم، وأخروا مراجعة الأطباء حتى تفاقمت عندهم الأمراض، وثانيهما بسبب الخوف من الذهاب إلى المستشفيات العمومية التي هي مظنة الإصابة بعدوى الكوفيد19، فضلا عن كون هذه المستشفيات مكتظة للغاية، ويصعب الحصول فيها على موعد معقول للتطبيب، دون أن ننسى أن بعضها قد امتلأت بمرضى الكوفيد ولم تعد تستقبل المرضى الآخرين أصلا. وفي سياق ضغط كثرة هذا العمل، جاءت فرصة هذا السفر هديةً غير متوقعة. ولم يكن بالإمكان ردها أو تفويتها، خاصة وأنها كانت مرفقة بإلحاح من صديق عزيز علي، وما عادتي أن أرد الهدايا على أصدقائي. فتجددت الصلة بالسفر، والذي طال عهدي به حيث لم أسافر هذا العام إلا مرة واحدة إلى مدينة مرتيل، ولم يكن إلا سفرا قصيرا.

انطلقنا من مدينة الرباط مع مجموعة من الأشخاص المميزين الملهمين، الذين أستمتع بكل دقيقة من الوقت الذي أقضيه معهم. أناس من الطينة المفضلة عندي، تلتقيهم وتعيش معهم أجمل الأوقات واللحظات، فإذا افترقتم انصرف كل شخص إلى شأنه وعمله، حتى تلتقوا مجددا لمناسبة أخرى، فيقابلونك بنفس الابتسامة والترحيب، دون أن يسألوك لمَ لمْ تُهاتفهم قط؟ ولمَ لمْ تستدعهم إلى عقيقة ابنتك؟ ولِـمَ لمْ تنشر الصورة التي التقطوها معك؟ ولِـمَ أهملت الإشارة إلي في تدوينتك؟ أو غيرها من الأسئلة التافهة التي لا يخجل بعض الناس من طرحها عليك. كان هؤلاء مجموعة من الأشخاص الأصفياء العمليين، الذين لا تخشى من تعميق الحوار ومبادلة الآراء معهم، لأنك تعرف أن الأمر لن تكون له كلفة لاحقة.

وبعد ساعات قضيناها في الطريق، وصلنا إلى دوار تمنصروين بمنطقة تاغية التابعة لجماعة واولى بعمالة أزيلال وكان أول ما نكتشفه بعد الوصول كرم هؤلاء القوم، وسرورهم بضيوفهم. قوم يسمعون بالبخل فقط ولا يعرفونه، وهم أقرب إلى البذل والتضحية والإيثار من حب التملك والحرص. أفرغ لنا بعضهم منازلهم، وأطعمونا من خير طعامهم مع ضعفهم وقلة حيلتهم. ثم نمنا ليلة هنيئة استعدادا للعمل الذي ينتظرنا في اليوم الموالي. انقضى الليل بسرعة وأقدم الصباح، لنقوم بعد الفطور إلى العمل، حيث بدأت عملية الحفر. وكانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. والأمل الذي يحدونا هو أن نحقق الهدف ونخرج المياه قبل غروب شمس هذا اليوم، لكن ذلك لم يتيسر، وكان في ذلك خير. وأمر المؤمن كله خير.

خطتي للانعزال عن الجماعة بحكم أنني لن أفيدهم بشيء لعدم خبرتي بالمجال، واستغلال نهاية الأسبوع للقراءة والمطالعة الحرة لم تسر كما توقعت، لأنني انخرطت معهم بالفعل. وبدأت أتابع عن قرب، وأستفسر عن سير الأمور. وكان من نتائج ذلك أن اكتشفت لأول مرة كيف يتم حفر الآبار، حتى أنه يمكنني أن أحدثك عن ذلك أيها القارئ الكريم. إن هذه العملية تمر بأربعة مراحل كبرى. تتمثل المرحلة الأولى في الحفر حتى الوصول للفرشة المائية. وأما في المرحلة الثانية فيتم وضع الأنابيب التي يتم رفع الماء فيها، وفي المرحلة الثالثة يتم تركيب المحرك أو المضخة التي تقوم برفع الماء إلى الأعلى، وأخيرا يتم في المرحلة الرابعة بناء خزان الماء (الشاطو) الذي يتم تخزين الماء فيه لتوزيعه على المنازل. وكل مرحلة من هذه المراحل تقتضي مجموعة من التدابير، وتتم بناء على معطيات ذات طابع فني بالغ الدقة، بمعرفتها يختلف الحرَفي عن غيره. ولا أحسبك عزيزي القارئ تنتظر مني أن أحدثك عن تفاصيلها ! فما أنا بعالم بتلك التفاصيل الفنية الدقيقة، ولا هي نافعة لك لو أخبرتك؛ وما أظنك تنوي احتراف حفر الآبار مستقبلا. وعوضا عن ذلك أقترح عليك أن نواصل سرد الأحداث التي وقعت في هذا اليوم.

في ذلك اليوم الأول، ما أن بدأنا عملية الحفر مع العاشرة حتى بدأ الناس يجتمعون، وظللنا على تلك الحال مواصلين العمل حتى العاشرة ليلا، أي بعد عمل متواصل لمدة تقارب اثني عشر ساعة كاملة. وقد استطعنا أن نحفر ما يقرب من مائة وستين مترا، أو بالأحرى استطاعت الآلة الحفّارة التي كنا نشتغل بها أن تفعل ذلك. لكن مع الأسف، رغم كل الحرص والجهود المبذولة لم نتمكن في ذلك اليوم من الوصول إلى الفرشة المائية، وكان ذلك مخيبا للغاية. هذه الخيبة لا ترجع فقط إلى أننا لم نتمكن من الوصول إلى الماء، بل أيضا لأننا كنا واثقين في قدرتنا على ذلك من اليوم الأول، وربما كانت ثقة مفرطة غير مؤسسة. وعلى كل حال، فقد تأجلت الفرحة إلى اليوم الموالي، بل ساد بعض التشاؤم أيضا لبعض الوقت، لأنه لم توجد أي بشائر تفيد بأننا نقرب من الوصول إلى الماء. والخوف كل الخوف أن نكون نصارع خارج الحلبة، ويضيع الجهد والمال سدى.

ومن خصائص حفر الآبار أنه يجعلك تراقب بشكل مستمر، لا تستطيع أن تجزم بأنك ستصل إلى الماء، ولا العكس. فقد تواصل العمل فإذا بك تصادف الفرشة المائية من دون إرهاصات سابقة، وقد تفعل ذلك ليوم ويومين وثلاثة دون جدوى. وكذلك كنا، ظللنا في ترقب وضغط مستمرين ليوم كامل، لكن شاء الله أن لا يتحقق مقصودنا في اليوم الأول.

والأمر لا يتعلق بعدم تحقيق هدف معين فقط، وبالتالي يمكن التغاضي عنه، وانتظار اليوم. بل هو أكبر من ذلك، لأنه متعلق بالآخرين؛ فمن جهة أولى، أنت تدير أموال المتبرعين، وعليك أن تكون حكيما في تدبيرها لتحقق أكبر قدر ممكن من النفع العام. ومعلوم أن كل متر من الحفر له كلفة مالية تدفع من تلك التبرعات، والخوف كل الخوف أن تظل في الحفر ليومين أو ثلاثة أو أكثر ولا تصل إلى هدفك المنشود، وهو الماء؛ فتكون قد ضيعت أموال المتبرعين في غير طائل.

ومن جهة ثانية، الأمر لا يتعلق بهدف شخصي إذا فشلت في تحقيقه لم يكن للآخرين فيه نفع أو خسارة، بل حفر هذه الآبار هي لمصلحة الغير أساسا. وهي عملية حضرها سكان المنطقة، الذين سيستفيدون من تلك المياه، وكانوا يترقبون بفارغ الصبر أن يتم الوصول إلى الماء. ولو قدر الله أن فشلنا في تحقيق ذلك، فإن الجميع سيصاب بإحباط كبير. وهذان السببان يفسران ذلك الضغط الذي شعرنا به جميعا، ولاحظناه بشكل أكثر وضوحا على وجوه المعنيين أكثر بإدارة هذا المشروع، والذين قرروا أن يتحملوا مسؤوليات جسيمة من أجل نشر النفع والتخفيف على الناس. وخيبة الأمل مريرة جدا حين تتعلق بكماليات العيش، فكيف سيكون طعمها وذوقها لو تعلقت بضرورة من ضرورات الحياة، وهو الماء ! وفي ظل هذا الترقب وتوتر الأعصاب، كان الابتهال إلى الله تعالى أن لا يحرمنا من خلق الفرحة في نفوس هؤلاء الناس، وأن لا نُـحرَج أمامهم، بعد أن كانت تطلعاتهم وانتظاراتهم من قدومنا كبيرة جدا.

انتهى اليوم الأول، وأُسدِل ستار الظلام، وأصيب الجميع بالإرهاق والتعب، فكان لا بد من إيقاف العمل، وانتظار اليوم الموالي، وكذلك كان. وقد قرر المنظمون مسبقا أننا بعد تناول وجبة العشاء، سنقوم ببعض الأنشطة الترفيهية احتفالا وابتهاجا بهذا العمل، لكن كان لا بد من تأجيل ذلك أيضا، لأن الهدف لم يتحقق من جهة، ولأن الجميع كان في مزاج غير ملائم بعد خيبة الأمل التي أصابت الجميع.

في اليوم الموالي، واصلنا عملية الحفر، رغم التخوف من الفشل مرة ثانية في الوصول إلى الهدف. وقد حضر في ذلك اليوم رجل مسن يسمى “بالنقّاب”، لكونه ينقب عن المياه الجوفية. وهو خبير في تحديد أماكن وجود وقرب هذه المياه، مع أنه لا يستعمل إلا بعض الأدوات التقليدية البسيطة. غير أنك حين تكون في مثل هذا الموقف، تحتاج إلى من يعيد لك الأمل، ولو بكلمات تشجيعية وإن كنت تدري أنها لا تغير من حقيقة الأمر شيئا. أكد لنا هذا الرجل وجود الماء، فاستبشرنا بذلك وتفاءلنا بقرب الفرج، وأننا لن نعود من هذه الرحلة خائبين.

وبمرور الوقت بدأت الساكنة تجتمع مرة ثانية شيئا فشيئا، ليعاودنا شعور الأمس، وزاد التخوف من إصابة الجميع بالإحباط في نهاية المطاف، فارتفع الضغط مرة أخرى. لكن بعد مرور وقت يسير، بدأت بشائر الفرج تلوح، فقد صارت التربة التي تخرج من الحفر مبللة قليلا، وهو ما أسرَّ الناظرين، وأعاد الابتسامة إلى الوجوه. وما أجمل شعور الأمل بعد اليأس، والفوز بعد الخسارة. كان ذلك أشبه بريمونتادا في كرة القدم، بعد أن يقول الجميع: إنها مستحيلة ! فما هي إلا لحظات يسيرة حتى انفجرت المياه بشكل قوي، لتبدأ فرحة هيستيرية تملّكت كل الحاضرين، في مشهد حماسي ومؤثر للغاية لم أشهد له مثيلا. ولم يستطع معه أحد من الحاضرين أن يحافظ على وقاره، حتى كبار السن وأصحاب اللحى الشائبة انخرطوا في الاحتفال والرقص؛ كانت فرحةً من نوع آخر، فرحة لا تقاوم. بل إن من الحاضرين من دخل تحت تلك المياه راقصا، واغتسل بها في الحين رغم أنها ما زالت مختلطة بالتربة. وبهذه الاحتفالات انتهت هذه المهمة، وتلتها احتفالات أخرى بعد ذلك نشّطتها فرقة أحواش لنغادر بعدها المنطقة عائدين، ونحن ممتنون لهذه التجربة المميزة، بعد كل ما عشناه فيها من مواقف ومشاعر ولحظات.

مرت هذه التجربة، وشأن التجارب أن تمر وتبقى دروسها. وحين عدت إلى منزلي ومرت أيام قليلة شرَعتُ أستذكر هذه التجربة محاولا كتابة هذا المقال. تذكرت اللحظة التي كاد اليأس فيها أن يُحكم قبضته على نفوسنا، لكنه لم يفعل. كاد أن ينال منا، لكننا غالبناه في النهاية. وكان هذا درسا بالغ الدلالة؛ فكم من أحيان يكون المرء فيها قريبا من نيل مبتغاه، لا تفصله به إلا ساعة صبر، لكنه يقرر الاستسلام فيُضيع نفسه ويفوّت هدفه. أكثر المشاريع تفشل بعد أن تكون قريبة جدا من النجاح؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يمل، وأن يتعب وأن ينفذ صبره بعد مدة من الزمن. ولا يظفر بمناه إلا أصحاب العزيمة القوية والنفَس الطويل والإصرار الذي لا يقهر. والنجاح في النهاية ليس لحظة آنية من الزمن، بل هو مسيرة ورحلة، لا بد من الصبر على قطعها بكل مراحلها، التي من أصعبها تلك المراحل الأخيرة، وهي التي تحدث فيها الفوارق بين الناس. فكل الناس يبدؤون التمدرس في سن الخامسة والسادسة من عمرهم، لكن منهم من يصبر حتى يصل أعلى الدرجات العلمية، ومنهم من يستعجل فيكتفي بأدناها، ومنهم من يتخلى عن كل شيء، باحثا عن مصادر العيش من طرق أخرى لا تأتي بالدراسة. ومن هنا تختلف مقامات الناس على مستوى الأمد البعيد.

والانسحاب في المرحلة الأخيرة مرير جدا من وجهين، الأول من حيث ضياع الجهد والعمر في غير طائل، والتكلفة الباهظة من غير نتيجة مرضية؛ والثاني من حيث إن هذا المنسحب يكتشف بعد فوات الأوان أنه كان قريبا جدا من النجاح، لو صبر قليلا. ولكن “لو: تفتح عمل الشيطان”.

عدت بذاكرتي أستذكر تلك الفرحة التي لم تكن فرحة بالماء وحده، بل فرحةً بالتخلص من معاناة الطريق التي كانوا يقطعونها من أجل توريد الماء في آبار الدواوير المجاورة. حيث كانوا يضطرون إلى قطع مسافة أكثر من خمسة كيلومترات كل يوم من أجل الماء، فضلا عن أن هذا الأمر يتسبب أحيانا في إثارة بعض الخلافات مع سكان تلك الدواوير، الذين قد يشعر البعض منهم أنهم يتصدقون عليهم بتلك المياه. ولذلك أصبح وجود بئر خاص بالدوار أحيانا يتحول إلى عامل من عوامل التعالي والترفع على الدواوير التي لا توجد بها المياه أو الآبار. ولذلك إذا أردنا أن نحلل هذا الأمر انثروبولوجيا، فالبئر هنا يكتسي دلالة أقوى من مجرد الوظيفة المعهودة الطبيعية=توفير المياه للشرب والري؛ فهو رمز للوجاهة والقوة، وإنشاؤه هو قطع مع مرحلة معينة، ومع وضعية اجتماعية كانت تتسم بالضعف. إن البئر بهذا المعنى هو رمز للعزة والاكتفاء الذاتي.

ومهما يكن، فإن مشاهدتي لتلك الفرحة التي عمت الناس لحظة انفجار المياه جعلتني أمعن النظر في مقدار النعم التي لا نعي بها غالبا، وهي نِعَمٌ في غاية الأهمية بل هي ضرورية في حياتنا. لكن المبذول لا يُلتفت إليه. فالماء يبقى آخر ما يمكن أن نفكر فيه نحن في حياتنا العادية، وإن كان أهم شيء على الإطلاق للحياة. والخطير أننا قد لا نستشعر أنه نعمة من النعم أصلا. وأنا أتحدث هنا من منطلق الإنسان العادي، وإن كنت كطبيب أعرف الدور الوظيفي الهام الذي يقوم به الماء في جسم الإنسان. فالماء عند الإنسان العادي لا تُعرَف قيمته إلا بفقدانه. وما أحرى بنا أن نحارب الجانب السلبي من الاعتياد الذي يجعلنا نغفل عن قيمة الأشياء في حياتنا وفي محيطنا، ويُصيبنا بتبلد في الأحاسيس والمشاعر.

“مشروع رواء”، بهذه الفرصة التي أتاحها لي لعيش هذه التجربة المميزة، يكون قد روّى شيئا في داخلي، وجعلني أنتبه بعد أن كنتُ ذاهلا عن نعم لا تحصى. هذه التجربة التي جعلتني أستوعب مرة أخرى أن الأمور حين لا تجري على ما خططنا وتوقعنا ليس بالضرورة أن تكون سيئةً، وأن فرحتنا حين تؤجل أحياناً، فإنها تأتي أكبر منها لو أتت في الوقت الذي أردنا أو توقعنا. ورأس الأمر كله أن يقوم المرء بما عليه القيام به، وأن يترك النهايات لتقدير القادر تعالى وتدبيره. ورأس الحكمة في هذا العصر أن يكف المرء عن الجري وراء الأوهام التي لا تنتهي؛ وأن يتعلم الاستمتاع بالحياة في بساطتها وتلقائيتها. وليس من المدهش بعد كل التعقيد الذي عرفته وتعرفه حياتنا أن صارت كيفية العيش والتعامل مع الحياة في بساطتها فنا علينا أن نتعلمه. نعم، قد يكون نصح الناس بهذا في وقت سابق مدهشا، ومثيرا للاستغراب، لكنه لم يعد كذلك اليوم؛ حياتنا صارت معقدة بشكل يبعث على الدهشة، وصار لزاما علينا أن نتعلم كيف نجعلها بسيطة يسيرة وخفيفة، وإلا ضاعت منا ونحن نلهث وراء السراب الذي لا يعقبه إلا سراب مثله .. ليستمر اللهث وراء السراب.

1xbet casino siteleri bahis siteleri