قراءة في كتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي

0 4٬637

بدأ بن نبي كتابه برثاء مرحلة من تاريخ الجزائر امتدت بين 1925 إلى سنة 1936، كادت أن تُحدث فيها حركة الإصلاح التي قادها علماء الجزائر حالةً من إعادة المجتمع للسير مرة أخرى في موكب التاريخ.

فبعد أن خلعت الحركة الإصلاحية عن نفسها رداء الدروشة التي قامت في الزوايا عبر التماس البركات واقتناء الحروز، وسارت في طريق القيام بالواجبات والاستمساك بالكرامة والتناسب والجمال في المظهر العام هادفةً إلى تغيير الإنسان وإقامة عرى نفسه المتهالكة، بعد ذلك كله يممت الحركة وجهها شطرَ السراب السياسي وعادت لترقد في فصول دروشة جديدة على موسيقى الشعارات المطربة من قبيل: إن الحقوق تؤخذ و لا تعطى.. فتحولت الحروز والتمائم إلى أوراق انتخابية وإلى حقوقٍ وأماني يتنغم بها الخيال..

61730.ngsversion.1466467224095.adapt.676.1
صورة لمجموعة من الرجال في مدينة المسيلة الجزائرية سنة 1926

خطا العلماء، مع نيتهم الطاهرة، خطوتهم الأولى نحو السراب السياسي، ونسوا أن الحكومة ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، وأن الدولة، كما يقول بورك، التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغييرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها، وأن الحقوق ما هي إلا نتيجة حتمية للقيام بالواجبات. نسوا كل ذلك فغربت شمس الفكرة التي تدعو إلى تغيير ما بالنفوس وظهر الصنم من جديد.

يشبّه مالك العالم الإسلامي بمريض دخل صيدلية، فيعالجه السياسي بما ظهر من أعراض أمراضه السياسية والفقيهُ بما ظهر من أعراض أمراضه العقائدية فهو يتعاطى حبة هنا ضد الجهل وقرصا هناك ضد الاستعمار ويتناول عقارا يشفي من الفقر، ولكن لا خيط ناظماً يذهب إلى أصل الأدواء و مبعثِها ليشتغل عليه بدل الانغماس في علاج الأعراض.

ويؤكد ابن نبي أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس، فليس واجبا لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات حضارة أخرى فذاك ممتنع كما وكيفا، فحتى يركِّب العالم الإسلامي عناصر حضارته في زمانه هذا وجب عليه أن يرجع إلى تلك الصيغة التحليلية التي تصنع كل ناتج حضاري:
ناتج حضاري = إنسان + تراب (مادة) + وقت

ومعلوم أن وجود المتفاعلات غير كاف لحدوث التفاعل في الاتجاه الصحيح المراد، إذ لا بد من تدخل مركِّب ما يؤثر في مزج العناصر الثلاثة. إن هذا المركِّب ليس سوى الفكرة الدينية التي رافقت تركيب كل الحضارات خلال التاريخ. فكما كانت الفكرة الإسلامية مركِّب الحضارة الإسلامية فكذا الفكرة المسيحية مهدت الطريق لحضارة الغرب بالرغم من أن هذه الفكرة لم يُكتب لها أن تعمل و تؤثر إلا قرونا بعد ميلادها بخلاف الفكرة الإسلامية التي تزامن ميلادها و انخراطها في بناء حضارة المسلمين.

94d7b26627b22e7ea874f9fc0d3d41ce
مسجد الأمير عبد القادر بمدينة قسطنطينة الجزائرية

فميلاد الحضارة يبدأ بإخضاع الفكرة الدينية لغرائز الإنسان الفطري البدائي (عبر تنظيمها وليس القضاء عليها). بعد ذلك تتطور الحضارة وتنشأ مشاكل وضرورات جديدة في مسارها كنتيجة حتمية لإشعاعها و انتشار أفكارها، فتسلك إذاك الحضارة منعطف العقل الذي يكون سلطانه على الغرائز أقل من سلطان الروح عليها. ثم ما تلبث الغرائز أن تتحرر تترى مع انكماش الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية شيئا فشيئا إلى أن تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها، إذاك يكون المجتمع قد دخل نهائيا في ليل التاريخ و تمت بذلك دورة الحضارة..

إن الإنسان قبل أن يتطلع إلى المستقبل كان لزاما عليه أن يحطم تلك الأغلال التي تكبح تقدمه و يصفي ثقافته من الأفكار البالية ومن عوامل الانحطاط، هذا ما أطلق عليه مالك بن نبي التحديد السلبي الذي يسبق التحديد الإيجابي الذي يصلنا بدوره بمقتضيات المستقبل. بعبارة أخرى، يجب على الإنسان المتخلف أن ينفك عن الثقافة السائدة في عصر الانحطاط و يرسم معالم ثقافة جديدة تحدد لها طريقا نحو التحضر.

وهُنا يشدّد مالك على الخلط الذي كثيرا ما يقع بين الثقافة و العلم، فالثقافة تعني مجموع الصفات الخلقية و القيم المجتمعية التي يُلقّاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي وُلد فيه، إنها المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، إنها خصائص المجتمع التي يتساوى فيها العالم و الفلاح لأنها تعبر عن تقاليدٍ وعواطفَ واستعدادات وأذواقٍ متناسبة متكاملة في مجتمع ما. وليست الثقافة علما خاصا لطبقة من الشعب دون أخرى، فهي كالدم، يحمل كريات بيضاء و حمراء، تحمل أفكار النخبة والعامة في سائل واحد يغذي حضارة الأمة. إن الثقافة لا علاقة لها بمرض العصر، بالتعالم وامتطاء العلم للصعود إلى البرلمان أو جعله آلة للعيش.

9155384_orig
الثورة الجزائرية 1954

ولتحديد ثقافة التحضر لابد من تحديد محتواها من العناصر الجوهرية التي تتمثل في:

1. الدستور الخلقي : إن أفرادَ جماعةٍ لن يكوّنوا وحدة تاريخية ولن يجتمعوا لتكوين حضارة إلا عندما تهذب غرائزَهم روحٌ أخلاقية سامية يقدح زنادها دين ما. ولعله من أكبر مصادر خطأ شباب اليوم أنه ينظر إلى منتجات المدنية الغربية أنها نتيجة علوم وفنون وصناعات وينسى أن كل هذه المظاهر ما كان أن يكون لها وجود لولا صلات اجتماعية خاصة هي الأساس الخُلُقي الذي قام عليه صرح المدنية الغربية.

2. الذوق الجمالي : الأفكار والذوق العام لا يتولدون إلا من الصور المُحَسَّة والمشهودة في الإطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه بحيث تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره، فالمجتمع الذي يحمل بين أرجائه صورا قبيحة لا بد وأن يظهر أثرها في أفكاره وأعماله ومساعيه.

3. المنطق العملي : يؤكد بن نبي أن العقل المجرد متوافر في بلادنا على خلاف العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة و الانتباه والذي يقول ويفكر ليعمل لا ليقول كلاما جميلا مجردا.

4. الصناعة : يدخل فيها كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم، أي بمنطق آخر ماذا يحسن أفراد المجتمع فعله.

والترتيب في سلم القيم بين عنصري الثقافة الأولين (الأخلاق و الجمال) في كل حضارة يحدد اتجاهها ونوعية عبقريتها ويطْبع إنتاجها الأدبي.

File579639736712788
لوحة لفن الفانتازيا في الجزائر

وبعد الحديث عن الثقافة التي تُعنى بالإنسان، يأتي بن مالك إلى مشكلة التراب فيرثي حال أرض الأمة التي ينقصها التصحر من أطرافها و يلتهم خضرتها. ثم يتحدث عن العنصر الثالث، عن الوقت، الذي يشترك الناس في حظهم منه كما و يتباينون كيفا, فَوَجَب أن يتعلم الشعب العربي الإسلامي قيمة هذا العنصر الذي يحدد معنى التأثير و الإنتاج. إن الزمن نهر صامت يعْبُر الأزل، نهر صامت حتى إننا ننساه أحيانا، ولكن كيف يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.

أخيرا يؤكد مالك أن للإنسان قيمتان: خامة طبيعية لا سلطان لأحد عليها من خارج الإنسان إلا أن يكون العطب داخليا، و قيمة خارجية صناعية اجتماعية تشكّل البيئة التي قد تحوي مجموعة من العراقيل التي لا تتيح لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي نحو النبوغ. فإذا انصلحت القيمة الأولى انصلحت الثانية تدريجيا عبر تكاثف عمل الأفراد على أنفسهم وسلوكهم، وبعبارة أخرى يقول بن نبي “أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم”