التقوى: أسلوبا ومنهجا

في البداية نود التأكيد على أن حديثنا عن التقوى لن يكون في إطار تقديمها بوصفها معيارا للظفر بمرضاة الله والفوز بالتالي بالجنة، إن ذلك يتداخل مع ما نرمي إليه لكننا آثرنا توظيفها باعتبارها أولا آلية لتفسير الواقع وثانيا بجعلها محددا للتطور والتغيير المجتمعي. وإذ نبحث في ماهية التقوى سيكون أمرا ضروريا استحضار مقولة الأخلاق بحمولتها الفلسفية، ذلك أن الذي يسميه المسلم تقوى يراه الأوروبي أخلاقا، لكن موضعة التقوى في إطار الفلسفة لن يذهب بها إلى أبعد من وصفها أخلاق أيضاً. 
إن جوهر التقوى يتقاطع مع العقل الأخلاقي وبالتالي فهما يقدمان بوصفهما نتاجا للإرادة الخيرة، وفهم التقوى من منظور فسلفي محض سيؤدي إلى سؤال الغاية، فإذا كان العقل الأخلاقي ينص على أن الأفعال تكون لذاتها، فإن التقوى، على العكس من ذلك، تتأسس على النتائج التي تحصلها أو تهدف إلى تحصيلها بواسطة الأفعال، وبالتالي ينتظر الفاعل/المؤمن الثواب والأجر من الله، هذا الأمر يجعلنا نقدم الإيمان باعتباره أساس التمايز بين التقوى والعقل الأخلاقي، كما يجعلنا أيضاً ونحن أمام فلسفة أخلاقية نتحدث عن البراغماتية الإيمانية لكون المؤمن يبحث عن نفعه الخاص، أعني أنه يتصور الخير بوصفه وسيلة للحصول على مقابل مادي أو معنوي، سواء كان واقعيا أو ميتافيزيقا.
إن التقوى في تصور المؤمن تمثل وسيلة بارعة للارتقاء إلى عالم الملكوت والجنة، ويحددها الله تعالى باعتبارها وسيلة لتجاوز المآزق، لأنه {من يتق الله يجعل له مخرجا} وأيضا {من يتق الله يجعل له من أمره يسرا}، ثم بالإضافة إلى ذلك أن التقوى هي معيار للأفضلية والتميز، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ونتيجة لذلك تصبح التقوى معيارا أصيلا في الإصلاح ومحركا قويا للتاريخ.
• غياب التقوى 
إنه مهما كان حضور العقل كاسحا في وقتنا الراهن وتاليا اعتباره محورا أساسيا في عملية التفكير بشأن إحراز التقدم والبناء الحضاري، فإن البعد الديني حاضر أيضاً في مسلسل التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية ليس في الدول العربية والإسلامية، وحسب بل حتى الدول الأوروبية التي تتغنى بالعقل وهي التي عاشت مرحلة تاريخية اتسمت بالطابع العقلاني، لم تنفلت من الوجود الديني. وهناك العديد من المفكرين والزعماء السياسيين من اعترفوا صراحة بالوظيفة التي جسدها مكون المسيحية في بناء الحضارة الأوروبية.
سيقول البعض إن العقل في أوروبا لم يظهر إلا بعد أن فشل الدين في تأسيس مجتمع حر ومن ثمة قضاؤه على روح الإبداع، وفشله كذلك في أن يكون الإنسان فاعلا ومنتجا، وهذا أمر ما فيه شك أبدا ما دام يتعلق بالكنيسة التي تسببت في انحطاط شمولي انعكس على المعرفة والعقل والأخلاق والسياسة. في الوقت الذي كان الإسلام يدعو فيه إلى إعمال العقل والتأمل في الوجود والبحث العلمي، الدعوة التي كانت محرمة في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة تعتبر نفسها المصدر الوحيد للمعرفة، ولأنها كانت مستبدة جعلت من التفكير جريمة. والحديث في هذا الباب يطول.
والانحطاط الذي نعيشه اليوم ليس نتاجا لمرحلة قد انقطعت كلية بفعل بزوغ العقل بوصفه بديلا للكنيسة، بل إنه نتاج طبيعي لطغيان العقل. إننا لا نهزأ بالعقلانية وإنما نحاول أن نبين ما للعقل من نتائج من شأنها هدم المجتمع. إن التقدم المادي الرهيب جعل العقل يتحرك في مجال محدد دون أن يسمح باستيعاب باقي العناصر المكونة للوجود الإنساني.
ونحن نقترح الإدارة معتبرين إياها نموذجا واقعيا يجسد الانحطاط بمستوياته، وحالة من أبرز الحالات التي تعكس حاجة المجتمع إلى فعل الإصلاح، ونحن نرى بأن غياب التقوى هو العنصر المطلوب في المعادلة. فماذا يكون الإصلاح إذا لم يعنِ الالتزام والفضيلة؟
إن مظاهر الفساد الإداري متعددة ومتنوعة وأحيانا يرتدي الفساد أقنعة قد يصعب تعريفه، ويمكن أن نقول بأن الرشوة والزبونية والمحسوبية أرقى أشكال الفساد الذي ينخر جسم المجتمع. ونتيجة لذلك، قدم العقل نفسه بوصفه المخلص والمطهر وبناء على هذا الدور سيأتي بنظريات وأفكار ويقدمها باعتبارها حلولا لمشاكل التدبير العمومي.
نقرر بداهة أن للانسان نزوعا فطريا للخير، لكن نزوعه إلى الشر أكثر. عندما أدخل للإدارة من أجل خدمة معينة وأجد أمامي طابورا طويلا ينتظر، يجب علي امتثالا للقانون أو لاعتبارات أخرى، أن أنتظر أيضا حتى يصل دوري، ولكن لأن الموظف صديقي أجد طريقة لأظهر نفسي له، وبما أن الموظف لمحني أشار إلي بالدخول لمكتبه فلبيت دعوته وأسدى إلي الخدمة، بينما هناك في الطابور من جاء قبلي أو أنه ينتظر منذ أيام أن يصل دوره.
ومهما كانت لهجة القانون شديدة فإنها لن تكون قادرة على منع الانحراف، نفس المنطق يجعلنا نتحدث عن انعدام تكافؤ الفرص وغياب شروط الاستحقاق في بعض الراغبين في هذه الوظيفة أو تلك، إذ يكفي أن تجتمع فيك بعض الشروط والمواصفات غير الموضوعية لتحصل على مقعد وظيفي وبضمانات.
  • في الحاجة إلى التقوى
إن جميع مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نابعة بالأساس من الافتقار إلى التقوى، حيث إن الاعتقاد بشمولية العقل أفرز منظومة من العلاقات المادية القائمة على المنفعة والشهوة والمال، بالتالي صار معطى المادة غاية الغايات، ومقوما في الفهم والنظر والسلوك وأداة لقياس الذوق ومعيار للفن ومحدد لا غنى عنه في تصنيف المجتمعات إلى متقدمة ومتخلفة، وبذلك، فكل هذا التقدم المادي الذي نراه لا يجب أن يعمينا عن خطورة فساد القيم والتصورات.
وانهيار اقتصادات الدول وهشاشة بنياتها ليس نتيجة لضعف الموارد والعقلنة في تدبيرها، وإنما مرده الاحتكام إلى المادة ومعاييرها. إن حاجتنا إلى التقوى اليوم أشد ما تكون في أي وقت مضى، ولا نقول إن تحقق التقوى سيضع نهاية لوجود الشر، إن نهاية التاريخ ليست متصلة بالتقوى، لأن التاريخ سينتهي بالضرورة.
إن التقوى تشكل فعلا خلاقا في المجتمع ولا بد إذا ما أردنا تحقيق التنمية والازدهار من أن تصبح التقوى معيارا ومنهجا يحكم قواعد سير العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العالم. إنها بهذا المعنى، أداة للتغيير المجتمعي.
1xbet casino siteleri bahis siteleri