المثقف الراهن ومتلازمة النفور من الكتابة!

683

قد يتفق الكثير من المثقفين والباحثين خصوصا الكتاب والمدونين منهم على أن هناك حالة من اليأس أو الإحباط تلم بهم في كثير من الأحيان، وتحول دون دفعهم للكتابة بشتى أنواعها والتي تشبه حالة يمكن وسمها “بيأس الكتابة” هذه الحالة التي أضحى التاريخ الراهن يتجه نحو تقويتها من خلال تهيئة الشروط لإنتاجها بشكل سريع؛ ذلك أن مظاهر اللامعنى والاستهلاك العام والتسليع الكلي أمست السمات المميزة لتاريخيتنا اليوم.

فتواجد الكاتب أو المثقف ضمن هذه الشروط التي تحكم الواقع سار تواجدا غير لائق أو لنقل غير مجدٍ إلى حد ما، حيث نجد أنفسنا بدون فعالية تارة وتارة أخرى غير منتجين بالمعنى الرأسمالي لهذا الزمن، ومن ثم نفقد رمزيتنا التي تعد شرطا أوليا لإحداث تدافعات تنتج إغناءات معرفية لا محيد عنها. هنا قد تبدو خطورة الأمر! عند استهداف الرمز تتلاشى الجاذبية نحو الأشياء وتفقد قيمتها، ولعل هذا ما صارت تتجه إليه الأمور بشكل كبير، المعارف وأصحابها يتجهون نحو الهامش، فما يريده أصحاب تاريخية اللامعنى من المعارف والتعليم اليوم سوى التقانة؛ إنسان تقني مفروغ من محتواه الإنسي العظيم كما هو الحال مع الكثير حاليا!

إن معركة المثقفين والكتاب صعبة جدا اليوم؛ فالأمر يشبه السباحة ضد التيار، فالخط الثقافي الكوني متجه بقوة نحو الزحف على كل ما هو قيمي أو رمزي التسليع وإعادة الإنتاج هي مطمح الكل السياسي والرأسمالي حتى الأفرد، إنها حالة من الهذيان تنسحب على الجميع، لقد تم إحكام القبضة على الشكل المرغوب أن تعيش على نحوه البشرية من خلال اعتماد الرأسمال كسلطة والثقافة كنمط عيش للاستهلاك! وهذا ما يزيد من تركيبية الوضع ويعيد طرح السؤال التالي: ما مدى فعالية سؤال التغيير أو المقاومة إزاء هذا الوضع؟

عندما تصير الثقافة نمط عيش بمظاهر وأساليب معممة على كل الأمم والثقافات باختلافها تسودها نفس الأشكال الثقافية سواء تعلق الأمر بالرباط، جاكرتا، أمستردام أو غيرها بنفس أنماط التداول والتواجد يصبح الأمر خطيرا ويعكس مدى إخضاع العالم لتاريخية واحدة ولسلطة واحدة لصالح أطراف محددة، ولعل ما نشهده من إبادة جماعية في غزة من طرف الكيان المحتل، هذه المرة خير دليل على أن هناك أشياء كانت تحدث منذ مدة غير طبيعية وتخدم أطرافا بعينها، مستغلة الرأسمال كسلطة والثقافة كنمط استهلاكي. ولعل في هذا السياق يبرز خطر الكتاب أو المثقفين المراقبيين بالنسبة للجهات التي تريد إخضاع العالم لسلطتها ليكون اعتمادها لاستراتيجية عالمية، أهم ما تتضمنه هو أن يكون المثقف اليوم في الهامش وبدون معنى وهي الآفة التي تميز الكل بمختلف أنحاء العالم بشهادة كل الباحثين والأكاديميين والمراقبين.

يبدو مما سبق أن هذه النوبة التي تصيب الكتاب والمثقفين نتاج لعوامل موضوعية وخارجة عن إرادتهم، ومن ثم وجب فهمها في سياقها العام الذي يطبعه تراجع دور المعرفة والقراءة في ظل سياق مادي صرف تم التأسيس إليه، يعيش الأفراد فيه في ظل حالة “البقاء على قيد الحياة – survival mode” والتي يعتبر أهم سماتها إعادة الإنتاج والحفاظ على الوضع القائم. فالأحداث الجارية أصابت الكل بنوع من الإحباط التام المتعلق بأي شكل من أشكال التغيير أو حتى التعبير، لقد أحدث هذا الواقع الثقافي اليوم حاجزا كبيرا بين إدراك قيمة القيم والمعارف ونبلها وبين ما يقتضيه الواقع المادي الاستهلاكي الذي يأخذ البشرية نحو إفراغها من أصلها الإنسي المتعالي.

لا بد من التأكيد على أننا لا نسعى من خلال ما سبق إلى تكريس الإحباط أو اليأس الذي ظل يقترن بالعديد من الكتاب والمثقفين وحتى المراقبين، بل نحاول تشخيص أو على الأقل الإشارة إلى قضية أضحت تلقي بظلالها على المشهد الثقافي والمعرفي الأمر الذي قد يزيد الطين بلة ويعقد من الأزمة ذلك أننا نطمح أولا وأخيرا إلى أن نكتب مهما كان ذلك صعبا! ذلك أن الرهان للخروج من هذه التاريخية التي تعيشها البشرية بفعل أطراف الشر وأعداء التعدد والاختلاف مرتبط بالمعرفة غير المعدلة أو المنقحة، بل المعرفة الموضوعية الخالصة التي يقبلها العقل ويصدقها القلب. ومن ثم دور الكتابة حاسم في هذا الصدد رغم ما يلتصق اليوم بهذا الخطاب من أشكال التبخيس أو اللاجدوى في ظل عالم بلا معالم.