لغز ماكيافيلي
يعد ميكيافيلي من المنظرين البارزين للفكر السياسي، وكتابه “الأمير” من الكتب الواسعة الشهرة والانتشار. يعتبر فيلسوف فلورنسا -أقصد ميكيافيلي- من خلال كتابه “الأمير” من المنظرين للاستبداد السياسي والمشجعين عليه، إذ إنه في مُؤَلَّفهِ هذا الذي قدم فيه نصائحاً لأمير فلورنسا لورنزو ميديتشي، قرر فيه ميكيافيلي أن الحاكم يجب أن يكون أسداً فيمتلك السلطة المطلقة التي لا يسمح لأحد بأن ينازعه فيها، وأن يكون ثعلباً فيخادع ويراوغ حتى يصل لمبتغاه.
ومن هنا كانت عبارته الشهيرة : “الغاية تبرر الوسيلة” فلكي يحقق الحاكم هدفه يمكنه أن يستعمل كل الوسائل الممكنة، حتى تلك غير الأخلاقية. ومن هذه الناحية يعتبر الفكر السياسي لميكيافيلي نقلة نوعية في تاريخ هذا الحقل المعرفي -أقصد الفكر السياسي- إذ إنه منذ “جمهورية” أفلاطون وكتاب “السياسة” لأرسطو و “المدينة الفاضلة” للفارابي أُدرِجَت السياسة ضمن مبحث الأخلاق، فكان الفلاسفة يقدمون الفكر السياسي بوصفه تجسيدا لما ينبغي أن يكون (بمدلوله الأخلاقي) فصاروا يتخيلون مدناً “فاضلة” تمثل تصورا حالماً لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع.
أما فيلسوف فلورنسا ميكيافيلي فقد فصل السياسة عن الأخلاق، وجعل من السياسة تتبعا لما هو كائن وليس لما ينبغي أن يكون، فكان بذلك مفكرا واقعيا يدرس الواقع السياسي كما هو بنقائصه وعيوبه وما يعتريه من شر وفساد من دون أن يقدم صورة حالمة ومثالية لمدينة خالية من الشوائب والعِلَل. وفي هذا السياق يقول ميكيافيلي:
“هناك بعد شاسع بين ما يعيشه المرء وما ينبغي أن يعيشه”.
إن هذه الصورة التي يقدم بها مكيافيلي في تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي ناقصة وقاصرة، إذ إنها تغيب جانبا مهما وأساسيًا من المتن السياسي والفكري لفيلسوف فلورنسا، إذ إنها تقتصر فقط على كتاب “الأمير” متجاهلة بذلك نصوصه الأخرى. بحيث إنه إذا كان يظهر لنا ماكيافيلي في كتاب الأمير كذلك المسوغ والمنظر للاستبداد والقهر السياسي ومشجعا عليه، فإنه يتجلى لنا في كتابه الآخر “أحاديث على المقالات العشر الأولى إلى تيتو ليفيو” كمؤيد لحرية الشعب وحقه في المشاركة السياسية ومساندًا لنظام الجمهورية! فبأيِّ الماكيافيليَيْنِ نأخذ؟ أماكيافيلي “الشرير” المنظر للاستبداد في “الأمير” أم ماكيافيلي “الفاضل” “الطيب” المنظر لحرية الشعب في سفر “الأحاديث”؟ إنه حقا كما يصفه أحد الدارسين لفكره “فيلسوف مقنع”، لعله- كما يعبر د. الطيب بوعزة- أبى إلا أن يكون ميكيافيليا معنا، فقدم لنا فكره بصورة غامضة مليئة بالألغاز والتناقضات!
قُدِّمَتْ تأويلات كثيرة ومتعددة حاولت معالجة هذا التناقض عند ماكيافيلي، فكانت من التأويلات الطريفة في هذا الباب تلك التي قدمتها ماري ديتز Mary Deitz في كتابها المعنون بـ “فخاخ الأمير” حيث إنها قررت بأن ماكيافيلي الحقيقي هو ذاك المدافع عن حرية الشعب وحقوقه في كتابه “أحاديث” أما كتاب “الأمير” فليس إلا فخا نصبه فيلسوف فلورنسا لأميرها ميديتشي حيث إن هذه النصائح التي قدمها له في كتابه هذا كفيلة بأن تدمر سلطته وتسقطه من منصبه وتبعده على عرش ملكه!
هذا التأويل الذي قدمته ماري ديتز رغم جاذبيته ورومانتيكيته إلا أنه يبقى غير منسجم مع السياق الثقافي والواقع السياسي والاجتماعي الذي اكتنف ماكيافيلي! لهذا كانت المقاربة التي قام بها المفكر المغربي الطيب بو عزة من المقاربات والمعالجات الجادة للمتن السياسي لماكيافيلي، إذ إنه حاول حل هذا التناقض وفك هذا اللغز من خلال الإحالة على السياق الثقافي والواقع السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه ميكيافيلي!
لقد كان هذا الأخير مفكرا قوميا يحلم بالوحدة السياسية لإيطاليا التي كانت في عصره مجزأةً إلى إماراتٍ ودويلاتٍ متعددة ومتصارعة فيما بينها. فرأى في أمير فلورنسا لورنزو ميديتشي ذلك الحاكم القوي الذي يستطيع أن يكون مطلق النفوذ ويستبد بالسلطة فيهيمن على باقي الإمارات فيسقطها ويتأتى له بذلك تحقيق حلم ميكيافيلي، توحيد إيطاليا كجمهورية قوية تحترم حرية الشعب وحقوقه كما بلور ذلك في كتابه “الأحاديث”. حتى يستطيع الأمير إنجاز وحدة إيطاليا فإنه يجب عليه أن يأخذ بنصائح ميكيافيلي في “الأمير” فيخادع ويغدر ويكذب ويقوم بكل الرذائل حتى يتمكن من إسقاط خصومه من الأمراء والحكام والتغلب عليهم. لكن هذا السلوك ليس جائزا ومقبولا إلا مؤقتا، أي خلال مدة العمل على بناء دولة إيطاليا الموحدة. فحينما يتم له ذلك ويتحقق هذا المشروع، فتبنى الدولة ويستقر الحكم ينبغي على الأمير أن يضرب بكتاب “الأمير” عرض الحائط ويأخذ بقوة كتاب “أحاديث على المقالات العشر الأولى إلى تيتو ليفيو” فيعطي للشعب حقوقه ويحترم حريته ويحفظ له كرامته ولا يكون مستبدا أو ظالما كما كان في فترة بنائه للدولة، فإنه إن جاز له أن يكون كذلك في تلك المدة فذلك من باب “الضرورات تبيح المحظورات” ضرورة توحيد إيطاليا وإخراجها من تشرذمها السياسي أو كما عبر ماكيافيلي بنفسه “الغاية تبرر الوسيلة”، فعندما تتحقق الغاية لا يبقى للوسيلة مبرر.