قراءة في كتاب نظام التفاهة لألان دونو

1٬725
أصدر المفكر الكندي ألان دونو سنة 2015 كتابا باللغة الفرنسية بعنوان “la médiocratie”، الكتاب الذي ترجمته الكاتبة الكويتية مشاعل عبد العزيز الهاجري أوائل هذا العام إلى العربية معنونة إياه “نظام التفاهة”. ويمزج الكاتب في إنتاجه هذا بين البعد الفلسفي في مقاربة المفاهيم وما يبدو أشبه بالبحث الاستقصائي بخصوص بعض الأحداث التي أتى على سردها، والتي ارتبطت بجامعات وشركات في بلاده كندا، وفي بلدان غربية أخرى، أحداث أغلبها مثير للجدل، يراها الكاتب جزءا مما يسميه “اللعبة”.

يستعرض الكاتب رؤية نقدية للنظام العالمي الذي يصفه بالتافه، حيث ينتقد بلذاعة نظم عمل مختلف المؤسسات من جامعات ومراكز أبحاث ومؤسسات إعلامية وشركات وجمعيات وحكومات ونقابات. يقول الكاتب إن النظام السائد في العالم يشجع على التفاهة بمعنى أنه يشجع على كل ما هو متوسط، فما يهم النظام هو المستوى المتوسط في كل شيء، فبه تتحقق استمراريته.
ويوضح الكاتب في معرض شرحه للتفاهة من منظور لغوي أننا لا نجد مثلا مفردة “la moyenneté” في المعجم الفرنسي، كما نجد supériorité و infériorité للدلالة تواليا على العلو والدنو، لذلك فإن مفردة التفاهة “la médiocrité” هي في الحقيقة من تقوم مقامها لتفيد التوسط في المستوى أثناء القيام بشيء ما.

ويسترسل الكاتب بالقول إن التفاهة التي هي مفهوم مجرد صارت نظاما متكاملا (la médiocratie) الذي هو التجسيد العملي للتفاهة، ففي هذا النظام القواعد ليست مكتوبة لكنها معروفة ومتعارف عليها، فالكل هنا يلعب اللعبة.. وانطلاقا من ملاحظة كارل ماركس التي يقول فيها إن العمل صار يختزل إلى مجرد قوة للعمل ووحدة قياس وتكلفة، حيث يمثل الأجر ما يحتاجه العمال لإنتاج قوة العمل، يشير الكاتب إلى أن العمل فقد قيمته، فقد الحرفة، وصار العمل مجرد وسيلة من أجل كسب رغيف الخبز، ولم تعد المهارة والحنكة في أداء العمل معيارا مهما، فكم من كتبي يبيع كتبا لم يقرأها! وكم من شخص يعطي تعليمات من مكتبه دون أن يفهمها أساسا! لذلك فالعمل ذو الجودة العالية صار في زماننا عملة نادرة.

وعطفا على ما ذكرته في الفقرة السابقة، فحتى اختزال العمل إلى مجرد وسيلة وهي التي تعني بالفرنسية moyen وبالإنجليزية mean له علاقة حتى من منظور لغوي بالتوسط في مستوى القيام بالأشياء أي بالتفاهة.. فليس الأمر في نظر الفيلسوف دونو مجرد صدفة.

وفي مثال آخر، يستشهد ألان دونو بمبدأ بيتر the peter principle، الذي طوره عالم النفس لورونس جاي بيتر والكاتب المسرحي ريموند هال، ليبين أن النظام يحفز على ترقي الموظفين العاديين (التافهين)، فيما يكون مصير الموظف المبدع أو المتمرد هو الطرد، أو في أفضل الأحوال البقاء في نفس المنصب بلا أي ترقية، والملام حسب مبدأ بيتر هو الموظف المبدع الذي قد يأتي بحلول أكثر فعالية وجودة، لكن نظام التفاهة يرفضها، بل إنه يعاقبه عليها.

في سياق آخر ينتقد الكاتب الكندي ما يسمى المهنية “professionalism” التي يقول إنها تعبر على نوع من ولاء منتجي المعرفة والخطاب لمالكي رأس المال، في غياب أي التزام روحي أو أخلاقي، ذلك أن خطاب الأساتذة والأكاديميين هو ما يعطي شرعية علمية أو أكاديمية لرؤوس الأموال. ويؤكد ألان دونو أن الطلبة صاروا سلعا تبيعها الجامعات والمدارس للمؤسسات والشركات التي تمول هذه الجامعات، واستشهد بتصريح لرئيس جامعة مونتريال قال فيه بأن العقول يجب أن تفصل وفق حاجيات سوق العمل.

وينتقد ألان دونو الخبراء الذين يقول إنهم ذوو تخصص ضيق ويخدمون السوق عوض أن يكونوا علماء ذوي أفق واسع قادرين على حل مشاكل الحياة المختلفة. ويفرق بين الخبير الذي يمثل السلطة الاقتصادية وبين المثقف ذي الفكر الحر وما يمثله من التزام بالقيم والمبادئ، كما يشير إلى أن الخبير يعمل لصالح مؤسسة ما هي ما يحدد مهامه، لذلك فهو يلتزم بأهدافها فيما ينتج من أفكار مقابل ما يحصل عليه من مكافآت، ومنه فدوره وعلاقته بالمؤسسة تتسم بالمصلحية الواضحة. وفي السياسة، يقول ألان دونو إن نظام التفاهة يتجسد في الوسط المتطرف (باعتباره الخيار الأوحد الذي يتجسد في نظام التفاهة، ولا تعني مفردة متطرف هنا “متشدد وموغل” نحو اليمين أو اليسار، ذلك أن نظام التفاهة يلغي أساسا محور اليمين واليسار ويكتفي بالوسط المتطرف)، ومهما اختلفت التلاوين السياسية فنظام التفاهة يقتضي الولاء للشركات والمستثمرين والأوليغارشية مقابل اهتمام أقل بالعمال وبالقطاعات الاجتماعية.

لقد ساءل ألان دونو نظام التفاهة، حيث سلطة المال هي سيدة الموقف وحيث تفرغ أمور مثل العمل والجامعات والنقابات والفن والسياسة وغيرها من محتواها لتصير أسيرة هذا النظام، وإذا كان كلام الكاتب في أغلبه تشخيصا نقديا مرفوقا بوقائع تجعل القارئ يعتقد نفسه أمام تقرير استقصائي، فإن كثيرين ربما يرون في كتاب نظام التفاهة نوعا من الغرق في سيول الخطاب الضارب في الأخلاقية والعدمية على اعتبار أنه لا يقدم حلولا ملموسة للإشكالات التي يثيرها، ولست أعتقد أن من واجب المفكر دونو أن يجد إجابات وحلولا، فدوره هو إخضاع ما يراه من طغيان لمظاهر التفاهة للمساءلة والنقد.