لماذا علينا أن نقرأ؟

أتذكر مداخلة صديق في حصة دراسية، كنا نناقش يومها أهمية القراءة، وقد قال ما مفاده أن قراءة الكتب ليست نافعة ولا طائل من ورائها. وأتذكر أن الأمر دفعني للتأمل قليلا، فكلامه حتى وإن بدا لنا خاطئا، إلا أنه يصعب نفيه ببساطة، أقصد أنه حتى وإن أقررنا لفظا بأهمية القراءة، فإنه قلما نصل إلى إدراك واستيعاب هذه الأهمية.

يسهل أن نردد بعض العبارات الرائجة والعامة من قبيل: إن القراءة تفتح المدارك، وتنير العقول، وتبهج النفوس، وغيرها من الكلمات المنمقة والجميلة. لكن ونحن مقبلون على القراءة، ماذا نستفيد عمليا؟ أي تأثير للقراءة على الإنسان بشكل ملموس؟ وهل يعكس الإقبال على القراءة ارتفاعا في مستوى الوعي داخل المجتمعات ومنه ينعكس على تحسن واقعهم الاجتماعي؟ أم أن القراءة ليست سوى عادة محدودة الفائدة هذا إن كانت مفيدة أصلا؟

إن عدم إقبال كثير منا على القراءة عائد نسبيا إلى عدم وعينا بأهميتها، فكثير منا يعتقد أن القراءة إهدار للوقت، ومجرد بلع للحروف ولوك للكلمات، لا فائدة من ورائها. ففي أفضل الأحوال قد يلتقط القارئ معارف ومعلومات دون أن يكون لها أثر ملموس في حالته الاقتصادية أو مكانته الاجتماعية.

في ذات السياق، قد يقول قائل فيم تفيد قراءة روايات نجيب محفوظ؟ أو كتابات عابد الجابري؟ أو مجلدات كارل ماركس؟ أو حتى قصائد جبران خليل جبران؟ هل يساهم ذلك في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي؟ الجواب البسيط لا، لا علاقة لفعل القراءة بالحالة الاجتماعية، وعليه، فالمعيار المادي الذي نقيم به الأشياء يدفعنا إلى الاعتقاد بعدم محورية فعل القراءة. من جهة أخرى، رسخت المدارس والمناهج الدراسية ألا نقرن القراءة سوى بالاختبار الدراسي والشهادة ومن ثم العمل. وليست القراءة خارج ما تمليه البرامج الدراسية مهمة في نظر عموم الناس، بل أحيانا في نظر بعض المؤهلين أكاديميا، وليس عجيبا ألا تشجع المدارس التلاميذ على المطالعة والقراءة؛ ذلك لأن البرامج التربوية مصاغة على مقاس المقاولات والشركات التي لا تهمها سوى المعرفة التي تخدم مصالحها.

وقد توقف الكاتب الكندي ألان دونو عند هذه الفكرة في”نظام التفاهة”، وفكرته أوسع وأدق؛ فهو ينتقد ما قد نسميه تصنيع المعرفة، أي أن المادة المدرسة تعدل وفق ما تريده الشركات، بعيدا عن أي معطى أخلاقي أو قيمي، لذلك فالقراءة التي تغذي الحس النقدي الذي يسائل النماذج والبنيات والباراديغمات الموجودة والمهيمنة ليس مرغوبا فيها داخل هذه المنظومة الكونية. المسألة الأخرى التي يغفلها كثير منا هي أن المواظبة على قراءة الكتب لها بعد تراكمي، أقصد أننا حينما نقرأ كتبا عديدة، فإننا نراكم المعارف التي تمكننا من مقاربة المواضيع من زوايا مختلفة، بل إنها تغذي الحس التحليلي الذي يدفع المرء إلى تجاوز مستوى اكتساب المعرفة إلى نقدها، بل أحيانا إلى مستوى صياغة أفكار جديدة خاصة به.

وإذا كانت القراءة أداة من أدوات تحصيل المعرفة في ظل الانتشار الواسع لتكنولوجيا الاتصال، فإن الكثيرين صاروا يفضلون الكتب المسموعة، أو إيجازات الكتب التي تقدم لهم مضامين موجزة ومركزة، والحقيقة أن كل الأشكال التي تعج بها مواقع الإنترنت لا يمكن أن تعوض قراءة الكتب، أقصد القراءة الكلاسيكية، بكل ما تحويه من بساطة ورومانسية، فهذه الأخيرة هي ما يمنحنا فرصة مجابهة أفكار الكاتب ونحن نقرأ، وتجعلنا نحاول أن نفهم الفكرة الظاهرة، ونقرأ بين سطورها، بما يحفز نشوء أسئلة جديدة، ومع قراءة كتب أخرى، قد تحصل عملية الربط بين كتب متنوعة ربما هي لكتاب ومفكرين من مرجعيات مختلفة.

قرأت مؤخرا في موقع معاني قولة منسوبة لصاحب “أثر العرب في الحضارة الأوروبية” الأستاذ عباس محمود العقاد يقول فيها إنه يحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيه، وكأن قراءة الكتب عالم آخر منفصل عن الواقع، وهذا في نظري كلام فيه شيء ولربما كثير من الشكلانية، لأنه في نظري كل ما نقرأ جزء من الحياة التي نسبح في غمارها. ثم إن مطالعة الكتب يجب أن يكون من بين أهدافها محاولة فهم واقعنا أو ظواهر فيه من أجل المساهمة في حلها، ولعل تلك من مسؤوليات المفكر أو المثقف الذي يشتغل في مجال التنظير. وليست القراءة فعلا منفصلا عن الحياة العامة كما أفهمها من قولة الأستاذ العقاد، وإلا فما جدوى القراءة؟

على كل، لست أتفق مع من يتخذ من القراءة وسيلة للهروب من الواقع، لأن الغرض منها هو الغوص في هذا الواقع من خلال محاولة فهمه وتشخيصه والتأثير فيه. وإني لأعتقد اعتقادا راسخا أن من أبرز ما وسع الهوة بين الناس والكتاب هو الصور النمطية الخاطئة التي أعطاها بعض القراء عن القراءة، فارتباط القراءة بسفاسف الأمور لا بجوهرها ومقاصدها يدفع كثيرين إلى الابتعاد عنها، من قبيل أن يكون كلام من يداومون على القراءة كله زخرفا ولوكا وتنميقا لا لب فيه ولا جوهر، أقصد أن القراءة بما فيها من مجهود فكري عليها مبدئيا أن تحملنا إلى تحليل وفهم الأفكار ومناقشتها، أما أن تكون أغلب خطابات من يقرؤون مجرد لوك وبلع، وأن يصير مشهد القراءة مرتبطا بفنجان قهوة وقطرات مطر فهذا فيه شيء من التمييع، وكأن هذه الطينة من القراء ترسل ما مؤداه أن القراءة مجرد مظاهر سطحية منفكة عن واقع الناس وتحدياته، وكأنه عالم مثالي آخر يلجأ إليه متى ما فشل المرء في الإجابة على تحديات الحياة الحقيقية. لهذا قلت سلفا إن القراءة وواقع حياتنا يجب أن يكونا على نفس الطور، لا ينسلخان أبدا ولا يتنافران إطلاقا. لا يلغي هذا ما يسمى بجدلية الفكر والواقع، صحيح أن الفكر ينظر إلى الأمور بشيء من المثالية وأحيانا من فوق الأبراج العاجية، لكنه مع ذلك يظل لصيقا به.

إن الربط بين انتشار ثقافة القراءة وتقدم المجتمعات صحيح؛ إذ تمثل القراءة، باعتبارها مجهودا عقليا مرتبطا بمتاعب الحياة وظواهرها، تمرينا نكتسب به المعرفة المحفزة للنقاش الذي هو أساس كل تقدم وتنمية، لكني أشدد على أهمية أن تجعل القراءة من الواقع منطلقا وبيئة وهدفا، هي غوص وإبحار عميق فيه، وليست هروبا منه.

1xbet casino siteleri bahis siteleri