متى تنسحب؟
حضرت مرة لأحد مدربي التنمية البشرية، “أنا لا أدرب تنمية بشرية، أنا أدرب إدارة” فأحد مدربي التنمية البشرية أخذ يتكلم و يقول معنى يكرره و أصحاب التنمية البشرية كثيرا، وهو لا يوجد شيء إسمه مستحيل، أنت و أنت تستطيعون أن تفعلوا أي شيء، أطلقوا قواكم الخفية، أطلقوا العملاق الذي في داخلكم، و غيرها من هذه المعاني.
فكنت أتأمل فأقول هل هذا الكلام صحيح؟ هل فعلا لا يوجد شييء إسمه مستحيل، فتأملت في هذا المعنى و درسته في التاريخ و في المنطق و في العلم.
طبعا كلام غلط، طبعا يوجد مستحيل، طبعا هناك أمور لا يستطيع الإنسان أن يفعلها، يعني اذهبي يا ابنتي فوق قمة جبل، و بدون أدوات و لا طيارات و لا كذا، و قولي أطلقي قواكي الخفية، أطلقي العملاق الذي في داخلك، أنت تستطيعين فعل كل شيء، أنت تستطيعين أن تطيري، و اذهبي لتطيري، ما الذي سيحصل لك؟
ما هذا اللعب؟ رضي الله عنكم، هذا لعب، أولا لا بد أن ندرك كعقلاء أن هناك أمورا مستحيلة، و بالتالي لا نصادم قوانين الله في الكون، فنحاول أن نعمل شيىء مستحيل.
لكن المسألة أعمق من هذا و أجل، هناك أمور غير مستحيلة، ممكنة، و مع ذلك لا بد أن ننسحب، و لذلك سميت الحلقة متى تنسحب؟ إذا طبعا سأنسحب عند مواجهة أي أمر مستحيل، سأنسحب، لكن ليس كل الأمور الواقعية أيضا سأكمل فيها، ليس كل الأمور الممكنة سأكمل فيها، و إنما لها قوانين، و لها قانون رئيسي جدا.
أذكر في إحدى الشركات التي أسستها و أدرتها، واجهتنا مشكلة ليس على مستوى الشركة، و ليس حتى على مستوى البلد “كانت الشركة في ماليزيا” فكانت المشكلة قد عمت جنوب شرق أسيا كله، و حدث انهيار اقتصادي، و انهارت هذه الشركة معه شركائي الذين كانوا معي في هذه الشركة قرروا أن يواجهوا هذه الكارثة المالية “و كان جزئ منها أن الحكومة نفسها وضعت يدها على جزئ من هذه الأموال بظلم” فقرروا ان يرفعوا قضايا.
أنا تأملت في هذه المشكلة، هم رفعوا قضايا و لكن أنا رفضت ان أرفع قضية، اليوم بعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحادثة ما زالت قضاياهم لم تنتهي، و صرفوا عليها ملايين على المحامين و غيرهم، أنا خلال هذه الفترة أعدت تأسيس المشاريع، و انطلقت، ما هو المعنى الذي أريد ان أوصله؟
هذه مشكلة أستطيع أن أواجهها، و أستطيع أن أتحداها، لكن السؤال و هو القانون الرئيسي، هل الوقت الذي سأبذله في حل هذه المشكلة، و الجهد الذي سأعطيه لهذه المشكلة، و المال الذي سأنفقه في حل المشكلة، جهد و وقت و مال، هل يستحق النتيجة التي ستأتي؟ و هل النتيجة التي ستأتي، ستأتي في وقت مناسب؟ يعني ممكن أن يحصل الإخوان على نتيجة، لكن بعد مرور سنين فتصبح المسألة ليس لها قيمة، فإذن القانون الرئيسي ليس أن نتحدى دائما، “طبعا لا يوجد مستحيل انسوها”، هل أتحدى دائما؟ هل أصر دائما؟ الجواب لا، و إنما أنا أختار معاركي، و أختار متى أنسحب، عندما يكون السد الذي أمامي أكبر بكثير من قدراتي ووقتي و مالي و جهدي سأنسحب.
و أحيانا عندما تكون القضية لها علاقة بالمبادئ، سأعلن مبدأي و قيمتي، لكني سأنسحب تكتيكيا حتى أعيد بناء نفسي و قدراتي، ثم أواجه، لكن أواجه و أنا ضعيف؟ حتى الصحابة، الله سبحانه و تعالى سمح لهم بالإنسحاب عندما يكون العدو ضعفهم، فكيف بنا نحن؟
العاقل هو الذي يعرف متى ينسحب و ليس فقط متى يقدم.
عن سلسلة “حصاد العمر” للدكتور طارق سويدان,
تفريغ: أسماء كدري.
التدقيق اللغوي: محمد أمين سوميح.