يقولون إن الحج رحلة عمر فريدة من نوعها وقد صدقوا…ويقولون إن بها أسرارا وأنوارا وقد صدقوا… ويقولون إن بينها وبين رحلة العمرة بونا وقد صدقوا… هي قصة صبر وأخلاق، وقصة اختبار واستسلام وقصة مبانٍ ومعانٍ… هي قصة تشوق وتشوك !!
تبدأ القصة حين يضعون في جوازك تأشيرة الحج الخضراء الجميلة، فهي حتما أجمل تأشيرة زينته، لا تُقارن بتأشيرات شينغن البئيسة التي حزتها طوال حياتك…حين تتأملها تبدأ في استرجاع شريط يوم قررت تلبية نداء سيدنا إبراهيم عليه السلام قبل آلاف السنين “وأذن”، حينها بدأت مسلسل القرعة أو مسلسل “الرغيب” والبحث عن تأشيرة مجاملة…لا يهم، في كلتي الحالتين، إن نلت التأشيرة، فاعلم أن الله الكريم بكرمه وفضله من عليك أنت شخصيا، وأذن لك ومتعك بشرف وأي شرف، شرف الاصطفاء والاجتباء من بين أكثر من مليار نفس في بقعة صغيرة من غرب العالم، كي تفد عليه ملبيا في رحلة استسلام له، وهذه لوحدها تكفي !
تدخل بعدها في حالة من الذهول الإيجابي وتسافر روحك قبلك، وتأتيك نوبات البكاء فرحا وخشية، فرحا لأنك من وفد الله فتبدأ في تخيل سير الأمور والتركيز في المعاني دون إغفال المباني، وخشية حين تتوجس من مفاجآت الساعة الأخيرة التي قد تحول بينك وبين أداء المناسك، فتسأل الله أن يتم عليك الأمر.
ساعة الصفر تدق، ومعها يدق قلبك وتهتز مشاعرك ويقطر دمعك، وأنت في كل ذلك لم تستوعب الأمر بعد…تتجرد من ملابسك “الفاخرة” وتلبس اللباس الأبيض الموحد الشبيه بالكفن، وتقرر معه طواعية التجرد من كل ألقابك ومكانتك وشواهدك وعملك وسمعتك ونسبك وشرفك، وتدخل في صفة واحدة مشتركة بينك وبين الجميع هي صفة “عبد” لرب واحد…هكذا يريدك ربك في مقام العبودية، إذ الحج وكل العبادات مناطها تحقيق القصد الواحد، قصد العبودية لله…تصل المطار، وتبدأ في أولى الاختبارات، اختبار التدافع نحو الطائرة الذي لا يُفهم له سبب، حيث إن الطائرة لن تقلع إلا باكتمال العدد، حينها ابدأ بتجديد النية ودع أعصابك في جليد قُطبي واترك الجميع يصعد قبلك، وساعد عجوزا أو املأ بيانات السفر لأمي لا يعرف الكتابة، فحساب حسناتك قد بدأ من هنا…تمر قوق الميقات فتبدأ بالتلبية “لبيك…” لبيك إلهي…نعم أتيت إليك من المغرب من بعيد، أتيت بمالي وبدني وجهدي وعقلي وروحي وخلاياي وكلي إليك، فتقبلني، تكررها مرتين للـتأكيد على القصد الواحد الأوحد الخالي من شريك مع الثناء عليه وشكره على نعمة الحج وكل نعمه والإقرار بملكه المطلق العظيم…
عندما تصل إلى مطار الوصول، أعِد نفسك لأقصى درجات التحمل والتجلد، فقد تبقى ساعات طوال قبل أن تتم الإجراءات، وقد تخسر امتحانك الأول قبل أن تبدأ…لا تنس أنك مُحرم حينها ولابس كفنك الأبيض، سينهشك التعب خصوصا إن كنت مُرافَقا…بين المطار ومكة المكرمة 80 كم وأكثر من ثلاث ساعات تجعلك تغضب…تذكر أن كل ذلك مجرد تفاهات، فأنت هناك لهدف أكبر تصغر معه كل الأشياء…لا تنس، فقد بدأ اختبار اللاءات الثلاث “لا رفث ولا فسوق ولا جدال”…
تصل إلى مكة المكرمة…تستنشق أولى النسمات المباركة…لا بأس من غفوة وماء بارد تستعيد بها نشاطك، فأنت مقبل على انضمامك لمجمع كبير يتطلب جهدا…
وأخيرا…ها أنت في حضرة المولى في أطهر بقعة في الأرض، في بيته الحرام بجوار الكعبة المشرفة…ها أنت يستطيع بؤبؤا عينيك أن يتسعا ليملآهما بأجمل سواد يمكن أن ترياه…هي الكعبة، نعم هي القبلة التي نصلي إليها كل يوم، ها أنت بجوارها، فلتقف خصال شعرك هيبة وتحية لهذا المشهد الرائع، ولينهمر الدمع فحُق له أن يفعل في هذا المقام…إياك أن تندفع إلى الحجر الأسود…تذكر لا تؤذ أحدا، وابدأ من الحجر الأسود، حجر الجنة، ولتكن نيتك مرضاة الله باستقبال شيء من الجنة، لكن لا تستسلم للأشياء وارتبط برب الأشياء “بسم الله، الله أكبر، اللهم إيمانا بك…” نعم ما جاء بك كل هذه المسافات إلاهُ سيدك ومولاك…هذه الطقوس التي ستقوم بها مبنى، ترتضي بها وجهه بدءا استسلاما كما أمرك بفعل ذلك…ثم ابدأ بالطواف سبعا والسبع عند العرب يرمز للا متناهي، فليس المقصود العدد في حد ذاته، بل المقصود أن ينصهر جسمك وخلاياك وروحك وكلك وينسجم مع الكون بكل مكوناته في حمده ثناء وشكرا وتسبيحا وتهليلا ودعاء، فتصبح روحك ملكا لله وترتقي في هذه الحركة اللامتناهية التي توصلك إلى مقامات القرب والأنس بالله، ثم تذكر مرة أخرى كيف اصطفاك ربك أخرى لتكون هناك، وقل : نعم أنا هنا…
بعد ذلك صل ركعتين تبرئة من الشرك (قل يأيها الكافرون) وإقرارا بالعقيدة الصحيحة الخالصة (قل هو الله أحد) وانطلق إلى الصفا والمروة بعد أن ترتوي من ماء زمزم، لتتذكر قصة المرأة المجاهدة المكافحة المستسلمة لأمر ربها بيقين خيالي لا مثيل له، وأنت تذهب وتجيء سبعا تذكر أن هذه المرأة الصالحة صنعت حضارة، وبفضلها وبيقينها، فجر الله بأمره ماء زمزم الذي صنع كل الحضارة الإسلامية فيما بعد !! هي امرأة واحدة، لكن بآلاف الرجال، لم تستسلم، بل بدأت تبحث عن فرص الحياة لأنها لم تنس نصيبها من الدنيا، وأخذت بالأسباب، بل كانت لها مسؤولية الحفاظ على ولدها، لذلك كانت تجري بين الخطين الأخضرين حيث كان يغيب سيدنا إسماعيل عن نظرها، فلا تبخل بمثل جري أم متلهفة على ولدها…ها أنت قد انتهيت من عمرتك، وأذن الله لك بالتمتع رفعا للحرج إلى حين…
اليوم الثامن من ذي الحجة…تلبس كفنك مرة أخرى وتُؤمر كما الحجيج بالذهاب إلى حاضنة تدعى منى، هذه الحاضنة أو مدينة الأيام الخمسة، هي بمثابة مستودع يسحبك من مظاهر التمدن ويجعل الناس في صعيد واحد بين جبال لتهيئتهم نفسيا ليوم الحج الأكبر…هناك كل الناس يتوشح البياض، الكل مقبل على ربه، مستعد ليوم الحشر…تذكر مرة أخرى اللاءات الثلاث واعمل على التخلية فغدا يوم للتحلية…
اليوم التاسع من ذي الحجة…يوم الحج الأكبر، يوم عرفة…يوم الحشر الأصغر…الجميع في موقف واحد، تحت حرارة واحدة…الجميع يبتهل، وأنت واحد من هؤلاء…أنت لا شيء، كائن صغير، لكن اليوم، مكانتك عُظمى عند سيدك…لا تنس التخلق بأخلاق نبيك، ولا تنس اللاءات الثلاث…احذر أن تضيع يومك في النوم كثيرا، فلا بأس من غفوة ترتاح فيها من صعوبة اليوم…هو يوم صعب بالتأكيد…تغفل فيها نفسك لأنك ضعيف…لذلك حاول أن تركز أكثر وتُشغل هرمونات التنبيه في أقصى طاقاتها…يوم طويل حار صعب وشاق، لكن لا تنس أنك محظوظ بالتواجد في ذلك المكان المقدس، ولا تنس أنك في أعظم ركن رغم أن عرفات ليست حرما، ذلك لأنك ربك ينبهك أل تتعلق بالأماكن، بل تعلق برب الأماكن…وأكثر من الدعاء، خصوصا قُبيل المغرب وأكرم به وقتا، حيت تبرد الشمس وتحس بقرب انتهاء الوقت وتتذكر يومك وتحس أنك لم توفه حقه، فتنعزل عن الناس، وتتوجه مع الجميع، وإنها لرحمات وسكنات تنزل من السماء تلامس القلب وتعرج بالروج إلى الأعلى، حينها لا تنس أحبائك ومعارفك، سامح الجميع، عاهد الله على صفحة جديدة، واطلب منه المدد الدائم، واعلم أنك حين تدعو فإنك تستقبل مرة أخرى الحجر الأسود…نعم تستقبل الجنة في هذا اليوم المشهود….
ينتهي يومك مع صلاة المغرب وأنت أشعت أغبر، وتشد الرحال إلى المزدلفة…حيت تصل وتجد الوادي قد توشح بالبياض، فلا تكاد تجد مكانا، لذلك، تزود بالماء واصعد الجبل وأعد لنفسك مكانا لنوم الليل، فلن تنام مثل تلك النومة في حياتك أبدا، وأنت تلتحف السماء الأسود وتنظر في اللون الأبيض تحتك، ستشعر براحة خاصة وستنام وسط الأحجار غير مبالٍ ويبدأ لسانك يلهج بالشكر أن وفقك الله لذلك اليوم، يوم عرفة…
اليوم العاشر من ذي الحجة وأيام التشريق…بعد تلك النومة الهنيئة، وأداء صلاة الفجر بمزدلفة، تنطلق عائدا إلى الحاضنة البيضاء “منى” لتقضي فيها أربع أيام من السكينة وتفكر في المستقبل…تبدأ مع مجمع الحجاج في الزحف إلى رمي الحجرات التي جمعتها من مزدلفة لمسافة 3 كيلومترات…لا تنس اللاءات الثلاث وركز، قد اقتربت من التحلل. وأنت تزحف في سكينة ووقار، ابتعد عن أسباب الزحام واخفض الجناح للضعفاء والمساكن، فإن وصلت إلى مكان الرمي، قم بدورة كبيرة لتصل إلى آخر السور، ستجد نفسك ترمي حجرك دون زحام يُذكر في سكينة ووقار، وكل حجرة تسبقها “الله أكبر” مستعينا به في صراعك الأبدي مع عدوك إبليس الذي يعيش حينها أضعف اللحظات…حصيات تمدك بقوة كبيرة، ويُنزل الله على قبلك فرحة ممزوجة بالدموع، وحينئذ تتنبه لجموع الحجاج من كل البلدان وكل المشارب، وتبدأ في التعارف، فهذا من روسيا والآخر من الشيشان وذلك من التايلاند وبجواره حاج من غرب الصين والذي يجاوره من مقدونيا….يا إلهي…هؤلاء كلهم لبوا نداء سيدنا إبراهيم ؟؟
تفرح لعالمية هذا الدين البعيد كل البعد عما نسمعه يوميا في أخبار القتل والدمار…تكمل يومك بحلق الشعر وما أجمل تلك الصلعة الناصعة التي تبدو عليها، حيث تشعر فعلا بتساقط الذنوب مع خصلاتك…لا تنس، حاول أن تبق في الحاضنة البيضاء منى ما تبقى لك من الأيام واجعلها أيام تفكر وتأمل…
بعد أيام التشريق يبقى لك الطواف والسعي تختم بهما حجك…لقد انتهيت…مبروك…حجك مبرور وسعيك مشكور والجنة جزاء موفور…انتظر…فقط، لا تنس أن تعرج على المدينة المنورة ففيها خير البرية الذي بفضله بلغت هذه المكانة، صل وسلم عليه، وأفرحه بما جرى لك في مكة، وخذ تمرا وهدية واقفل إلى بيتك راجعا متواضعا دون لقب “حاج” عازما على بداية جديدة، فقد ولدتَ من جديد!