يوما ما سينفذ منا الوقت!
في غمرة قفزاتنا المعيشية، وبينما نكافح لتحقيق أهدافنا ورسم مستقبلنا، تتسلل إلينا أحيانا أطياف الراحة لتداعب خيالنا كنسيم عليل في صباح صيفي مشرق. تَتَمَثَّلُ هذه الأطياف في صورة الإنسان المرتاح السعيد الذي لا يعرف للتعب معنى أو مدخلا، تقدم لنا صورة عن كل ما نفتقر إليه من هدوء واسترخاء بسبب انشغالاتنا. تتلاحق الصور تَتْراً وتتراقص في أذهاننا عن حياة لا نصب فيها ولا تعب، ومع استحالة الإمساك بها، نكتفي بالذوبان في تفاصيلها ونُمَنِّي أنفسنا بالحصول عليها يوما ما.
إذا استحضرنا في واقعنا مثالا لشخص يتمتع بهذه الميزات ويَتَنَعَّمُ في الملذات التي لا تتأتى لنا إلا في مخيلتنا فإننا حتما سنقف أمام إنسان أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه: “إنسان كسول”. رغم مظاهر حياته التي قد تبدو لأول وهلة مثالية، إلا أن انعدام العمل والطموح لا يمكن أن ينتج إلا فردا كسولا في المجتمع؛ وجوده وعدمه سيان. هل هذه هي الحياة التي نحلم بها حقا؟ صحيح أننا نحتاج إلى الراحة من حين لآخر، وقد تبدو فكرة الحصول على ما نريد دون تعب مغرية جدا، ولكن هل تحقق هذه الشروط سيمنحنا السعادة؟ لطالما تصور الإنسان أن حياته ستكتمل بوجود شيء ما، شخص محدد أو حتى تحقيق هدف منشود، ولكن ما إن يبلغ مراده حتى تتغير نظرته ويكتشف أن الأمر ليس كما كان يعتقد، لم يشعر بجملة الأحاسيس التي كانت تداعب أفكاره ولم تكن النتيجة كما توقعها.
نفس الأمر ينطبق على العمل والمثابرة؛ قد يظن كثيرون أن الحياة ستكون أفضل لو أن كل شيء توفر دون حاجة للكد والعمل، ولكن هل سيكون الوضع أفضل حقا؟ تثبت الإحصائيات العكس تماما، حيث كشفت دراسات مختلفة أن انعدام النشاط البدني والذهني يؤدي بجسم الإنسان إلى فقدان نظامه الطبيعي، ليصبح عرضة لمضاعفات جسدية لا تحمد عقباها. فقد كشفت إحدى الدراسات أن الخمول والكسل كانا سببا في وفاة الكثيرين في مختلف أنحاء العالم؛ حيث إن بعض المختصين في هونغ كونغ لاحظوا أن الأشخاص ممن أعمارهم خمس وثلاثون فما فوق (6400 شخص)، توفوا بسبب عدم القيام بأي نشاط بدني مقارنة ب 5700 شخص توفوا بسبب التدخين. أي أن الكسل هنا لا يقل خطورة عن التدخين.
قد لا ندرك الأمر في خضم انشغالاتنا اليومية وتوقنا الشديد إلى الراحة، ولكن الحياة لن تكون جيدة ولا ممتعة إن كانت سهلة ولينة. الغريب هنا هو كيف سمحنا لأنفسنا بأن نُسْتَدْرَجَ إلى شباك الخمول وصدّقنا بأن الحياة يجب أن تكون سهلة ومريحة؟ لم عليها أن تكون كذلك؟ يقول روبن شارما في كتابه دليل العظمة: “عش الحياة لحد ذرف الدموع”. لا نستطيع أن نذرف الدموع ونحن نعيش في منطقة الأمان والراحة. الدموع من نصيب من يعيشون أيامهم بحق، من يكافحون لتحقيق أحلامهم سواء كانت دموع فرح بالنجاح أو خيبة بعد الفشل. إنها الدموع التي تُذَيِّلُ جهدا جبارا بُذل من أجل شيء مهم في الحياة. هذا الجهد المبذول، والنصب الكامن في كبد المثابرة يحتاج منا إلى توجيه، فليس كل من يضيع وقته وجهده في شيء ما هو مثابر، بل المثابر من كَرَّسَ حياته لقضية ما، قضية تساهم في جعل العالم مكانا أفضل للحياة.
كلامنا لا يُقْصِي ولا يَعِيبُ جهد من يحاول تحقيق حياة كريمة، بل هو دعوة إلى بذل جهد حقيقي والمثابرة فيما يستطيعه، أما الحياة الكريمة فمن واجبه الحتمي السعي لها. هذا الأمر يقودنا إلى الحديث عن أسباب المثابرة. إن كان الكفاح والتعب من أجل حياة كريمة واجبا أساسيا على كل فرد منا، فما هي أسباب المثابرة إذن؟ إنه الاجتهاد فيما استخلفنا الله فيه. أينما كنت وأينما كان موقعك، هناك شيء تستطيع فعله لتحقيق نتيجة أفضل؛ تربية الأبناء ليست مجرد وضع اجتماعي ودور نعيشه فقط، بل هي مهمة محفوفة بالتعب وتحتاج مثابرة دؤوبة لإنجاح وإدماج أفراد أكفاء وفاعلين في المجتمع. وظيفتك ليست مجرد روتين يومي بحثا عن راتب شهري وسط اعتراضات وجدال مستمر بسبب الضغط والتوتر، بل هي وسيلة فعالة لتغيير الواقع والمجتمع والرفع من قيمته. بمعنى شامل، أهم ما يستوجب المثابرة بحق هو إعمار الأرض وإصلاحها بحيث تكون مكانا أفضل لنا وللأجيال القادمة.
رغم أن الأمر قد يبدو صعبا إلا أن كل تغيير يبدأ من الفرد، ولكن على المستوى التطبيقي، كيف نتحلى بالمثابرة هكذا بكل بساطة؟ مع الأسف، لا توجد خطوات سحرية لذلك، كل ما في الأمر أن علينا الصبر على العمل. عوض المفهوم الشائع والمتداول عن الصبر كانتظار للفرج والحل، فإن الصبر على العمل يحتم الاستمرار في المحاولة بعيدا عن خيالات النتائج الفورية والسريعة، لأن توقع ذلك يولد الإحباط والتراجع السلبي. ولبلوغ هذا المستوى من الصبر -والذي قد يبدو مثاليا أو أسطوريا- نحتاج إلى الوعي، الوعي التام بأن ما نقوم به وما نثابر لأجله سيتحقق وإن لم نلمس الآثار لحظيا، وعي يشير بإصبعه إلى الصورة النهائية لعملنا حتى وإن كانت خارج نطاق رؤيتنا. سيمكننا تَبَنِّي هذا الوعي من المضي قدما والصبر على ما نمر به في سبيل تحقيق أهدافنا وما خلقنا الله لنقوم به على هذه الأرض.
أغلبنا الآن يمضي حياته كما اتفق، يترك الأيام تقوده وتسَيِّرُهُ كما اشتهت، إن لم يكن هذا كسلا وخمولا صَارِخَيْن فماذا يكون؟ تَعَايَشْنا مع الهزيمة والإحساس الكاذب بالراحة حتى أصبح من السهل علينا الاستمرار فيهما بدل محاول جادة للتغيير، أصبحنا نغير مفاهيمنا وربما أُسُسَنا حتى نخنق صوت الضمير الذي يهتف داخلنا لنقوم للإعمار. سواء تَقَبَّلْنا ذلك أم لا، إلا أن قيمة الحياة لا تنكشف إلا بعد العمل والتعب والألم، كما قال روبن شارما: “ابذل جهدا إضافيا في كل شيء تقوم به. قل الصدق، عش بشرف، انعم ببعض المرح. لأنه يوما ما سينفذ منك الوقت!”